بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 59 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي
المبحث: المطلق والمقيد (مقدمات الحكمة) الدرس: الأصول
التاريخ: الإثنين، 15 رجب الأصب، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
يقع الكلام في مقدمات الحكمة، ذكر صاحب الكفاية رحمه الله أنّه يُعتبر في تمامية الإطلاق في الخطاب أن يثبت فيه مقدمات الحكمة، وهي ثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: أن يكون المولى في مقام بيان تمام مراده ولا يكون في مقام الإهمال أو الإجمال.
ولعلّ مقصوده من الإهمال: أن لا يكون له داعٍ إلى بيان تمام مراده، ومراده من الإجمال أن يكون له داع إلى إخفاء تمام مراده، فإذا انكشف ولو بالقرينة المنفصلة أنّ المولى لم يكن في مقام بيان تمام مراده فينكشف عدم الإطلاق في الخطاب.
المقدمة الثانية: أن لا تكون هناك قرينة متصلة على التقييد.
أمّا لو كان هناك قرينة منفصلة على التقييد فلا ينكشف بها عدم الإطلاق؛ فإنّ المولى ظاهر حاله أنّه بصدد إبراز تمام مراده ولكن بالقرينة المنفصلة على التقييد -أي بالمقيّد المفصل- انكشف أنّ داعيه إلى إظهار أنّ هذا تمام مراده لم يكن هو الجدّ وإنّما كان له داعٍ آخر كضرب القاعدة كي يُرجع إليها عند الشك في مراده.
ج) المقدمة الثالثة: أن لا يكون هناك قدرٌ متيقن في مقام التخاطب.
[حكم الشك في المقدمة الأولى]
ثم ذكر صاحب الكفاية رحمه الله:
أنّنا إذا شككنا في المقدمة الأولى -أي في كون المولى في مقام بيان تمام مراده- فهناك أصلٌ عقلائيٌّ يحكم بأنّ المولى في مقام البيان، وبهذا الأصل العقلائي نحرز المقدمة الأولى.
هنا عدّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: ذكر صاحب منتقى الأصول –رحمة الله عليه- أنّ الإطلاق ظهورٌ سياقيٌّ في الخطاب ولا يتوقف على أيّة مقدمةٍ من هذه المقدمات، كلّ خطابٍ فُرض فيه حكم على طبيعةٍ كالحكم بوجوب عتق الرقبة ظاهره السياقي أنّ الرقبة تمام الموضوع لوجوب العتق، فإنّ الظاهر أنّ المولى لا يسكت عن ما هو دخيلٌ في غرضه، فما سكت عنه فينكشف بالظهور السياقي أنّه لم يكن دخيلاً في غرضه، وهذا هو الإطلاق.
والسيد البروجردي –رحمة الله عليه- أنكر المقدمة الثانية؛ فقال: إذا كان هناك قرينةٌ متصلةٌ على التقييد يعني وجود المقيّد المتصل، وجود المقيد المتصل يرفع الإطلاق من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أصلاً الموضوع لأصالة الإطلاق هو الشك في الإطلاق ومع المقيد المتصل لا يوجد شكٌّ في ذلك حتى نرجع إلى أصالة الإطلاق.
ولكن الظاهر أن نقول: هذه المقدمات يُراد منها تحقيق موضوع الإطلاق؛ يعني: الظهور الإطلاقي في الخطاب إنّما ينعقد في هذه الأرضية، في أرضيةٍ يكون المولى في مقام البيان ولا يوجد مقيدٌ متصل، فهناك تتحقق أرضيةٌ ينشأ فيها الظهور الإطلاقي في الخطاب.
وإن شئت قلت: هذه المقدمات تبين موضوع الظهور الإطلاقي، فإن كان المراد من مقدمات الحكمة هذا الذي ذكرناه فلا يبقى مجالٌ لإنكار المنتقى تلك المقدمات. نحن نقبل أنّ الإطلاق ظهورٌ سياقي للخطاب، يعني ظهور حال المولى في أنّ ما سكت عنه لم يكن دخيلاً في غرضه يخلق ظهوراً للخطاب في أنّ ما بيّنه في الخطاب تمام مراده، وهذا هو الظهور الإطلاقي، ولكن هذا الظهور الإطلاقي متى يتحقق؟ إنّما يتحقق في مجالٍ يكون المولى في مقام بيان تمام مراده ولا يوجد مقيّدٌ متصل.
الملاحظة الثانية: الظاهر أنّما هو دخيلٌ في الظهور الإطلاقي ليس هو واقع كون المولى في مقام بيان تمام مراده، بل نفس ظهور الخطاب الناشىء من الظهور الحالي لكلّ متكلمٍ عقلائيّ في أنّه لا يسكت عن بيان قيدٍ يكون دخيلاً في غرضه، هذا السكوت الحالي العقلائي يحقق ظهوراً للخطاب المطلق في أنّ ما سكت عنه لم يرده، لم يكن دخيلاً في مراده، وهذا الظهور الإطلاقي يتحقق في الخطاب ولو انكشف بالقرينة المنفصلة القائمة على أنّ المولى لم يكن في مقام البيان، ولو انكشف بذلك أنّه لم يكن في مقام البيان فلا يزال الظهور الإطلاقي في ذلك الخطاب متحققاً وإنّما يسقط عن الحجيّة، فإذا قال المولى “جئني بماءٍ” فظاهر حاله أنّه لو كان وصفٌ للماء دخيلاً في غرضه كبرودة الماء لما سكت عنه، فحيث سكت عن بيان القيد الزائد فيتشكل ظهور في خطاب “جئني بماءٍ” في أنّ الماء تمام المراد له. ثمّ إذا قامت قرينةٌ منفصلةٌ على أنّه لم يكن في مقام البيان بل كان في مقام الإهمال فلا يزال ذلك الظهور متحققاً ومنعقدا وإنّما يسقط عن الحجيّة، فلماذا جعل صاحب الكفاية المقدمة الأولى أمراً واقعياً وهو كون المولى واقعاً في مقام بيان تمام مراده؟
لا، المهم في الإطلاق ظهور حال المولى في أنّه بصدد بيان تمام مراده، هذا هو الذي يخلق الإطلاق، يخلق الظهور الإطلاقي في الخطاب.
الملاحظة الثالثة: ما هو مقصود صاحب الكفاية رحمه الله من كون المولى في مقام بيان تمام مراده؟
فقد ذكر في منتقى الأصول رحمه الله أنّ المقصود: كون المولى في مقام بيان تمام مراده التفهيميّ وإلّا فلا يجتمع كونه في مقام بيان تمام مراده الجدّي مع ما ذكره من أنّ المقيّد المنفصل لا يُخلّ بالإطلاق. هل يجتمع المقيّد المنفصل مع كون المولى حينما قال “جئني بماءٍ” ثم في مقيّدٍ منفصلٍ قال “وليكن الماء باردا” فهل يجتمع ذلك المقيّد المنفصل مع كون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّي بالخطاب الأول؟ لا يجتمع معه، فلا محالة يكون المقصود من المقدمة الأولى: كون المولى في مقام بيان مراده التفهيميّ، وهذا يجتمع مع أن لا يكون ذلك بداعي الجد، بل يكون بداعي ضرب القاعدة فيرجع إليها عند الشك في المقيّد المنفصل.
نقول: أصلاً لا نتعقل أن يكون للمولى مرادٌ تفهيميّ من الخطاب ولا يكون بصدد بيان تمام مراده التفهيميّ! كما في مورد الإهمال؛ في مورد الإهمال حينما تقول لعاميٍّ “قلّد مجتهداً” فأنت في مقام الإهمال، لست في صدد بيان شرائط المرجع، تريد أن تسحبه من العمل بلا تقليد إلى أن يكون عمله عن تقليدٍ، فتقول له “قلّد مجتهدا” فمرادك التفهيمي بيان أصل وجوب التقليد وقد بيّنت تمام مرادك التفهيمي من هذا الخطاب.
كلام المنتقى نظير أن يقال: بأنّ تمام مقصوده من الأكل هو أكل هذا البطيخ بكامله ولكنه ليس بصدد أكل تمامه، معقول؟! أنا مقصودي: أكل هذا البطيخ بتمامه ولكن لست بصدد أكل تمامه!
هذا جمعٌ بين المتنافيين، إذا كان شخصٌ في مقام الإهمال يعني لا يكون مراده التفهيمي بيان الخصوصيات، فلا يُعقل أن نقول: الإهمال بمعنى أن لا يكون المولى بصدد بيان تمام مراده التفهيميّ، يعني مراده التفهيميّ أكثرممّا أراد تفهيمه؟ هذا غير معقول.
فإذاً لا محالة يكون مقصود صاحب الكفاية رحمه الله من المقدمة الأولى: أن يكون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ، لكن: لا بدّ من تفسيره بحيث يجتمع مع المقيّد المنفصل، كيف يجتمعان؟
يقول صاحب الكفاية رحمه الله: المولى بصدد إظهار وإبراز أنّ عتق الرقبة تمام مراده، ولكن مع أنّه بصدد بيان وإظهار أنّ هذا تمام مراده الجدّيّ، ولكن ليس داعيه من هذا الإبراز والإظهار الجدّ؛ نظير أن أُصرّح فأقول: “تمام مرادي الجدي عتق الرقبة”، ولكن أقول بعد ذلك: “اعلم أنّ ذلك الكلام الذي صدر مني لم يكن بداعي الجد بل كان بداعي التقية، بل كان بداعي ضرب القاعدة وإلا فلا بدّ من اعتبار الإيمان في الرقبة التي تعتقها”، يقول صاحب الكفاية: ليس هناك منافاة بينهما؛ هذا المتكلّم بصدد إظهار تمام مراده الجدّيّ، ولكن هذا الإظهار قد لا يكون بداعي الجد كما في مورد المقيّد المنفصل.
فإذاً، يقول المقصود من المقدمة الأولى: كون المولى في مقام بيان تمام مراده الجدّيّ. يعني: في مقام إظهار ذلك، إبراز ذلك، فقد يكون بداعي الجد وقد يكون بداعٍ آخر كضرب القاعدة ليُرجع إليها في مورد الشك وهو ما إذا لحق هذا الإطلاق مقيّدٌ منفصل، فلا ينكشف من هذا المقيّد المنفصل أنّ المولى لم يكن بصدد إظهار تمام مراده الجدي، لا، كان بصدد إظهار ذلك لكن بداعي آخر غيرُ داعي الجد.
وهذا الكلام من صاحب الكفاية رحمه الله وإن كان مبتلىً بالإشكال فإنّ المرتكز العقلائي بعد ورود المقيّد المنفصل أنّ المولى لم يكن بصدد البيان من ناحية المقيّد المنفصل، لم يكن بصدد بيان أنّ الرقبة تمام الموضوع من حيث قيد الإيمان، كما يظهر ذلك من الشيخ الأنصاري قدس سره، وهذا لا ينافي أنّ كون المولى في مقام البيان حيث يكون انحلاليّاً فلا تزال تجري أصالة البيان بعد ورود هذا المقيّد المنفصل الدال على لزوم كون الرقبة مؤمنةً بالنسبة إلى سائر القيود؛ فإنّ كون المولى في مقام البيان أمرٌ نسبيٌّ وإنحلاليٌّ، انكشف أنّه لم يكن في مقام البيان من حيث قيد الإيمان، هذا هو الظاهر من الشيخ الأنصاري قدس سره وهو الموافق للمرتكز العقلائي لا ما يذكره صاحب الكفاية قدس سره من أنّه لا يزال المتكلّم حتى مع المقيّد المنفصل بصدد إظهار تمام مراده الجدّي، بصدد بيان أي إظهار تمام مراده الجدّيّ، هذا وإن كان معقولاً ولكنه خلاف المرتكز العقلائي.
والحمد لله ربّ العالمين.