بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 58 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي
المبحث: المطلق والمقيد الدرس: الأصول
التاريخ: الأحد، 14 رجب الأصب، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في أنّه: هل يمكن إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد بناءً على كون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب أم لا؟
فقلنا بأنّ الظاهر: أنّه لا يمكن إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد وذلك لعدّة وجوه:
الوجه الأول: أنّ ما يُتوقع هو إثبات أثر الإطلاق الشموليّ باستصحاب عدم التقييد فيما إذا كان الموضوع للحكم مردداً بين الأقل والأكثر، والموضوع للحكم انحلاليٌّ لا محالة، فغسل الجنابة موضوعٌ لجواز الدخول في المسجد على نحو الانحلال، كل غسل جنابة مشروع موضوع لهذا الأثر، والإطلاق الشمولي أمر وجودي لأنّه يعني الإنحلال في الجعل بعدد أفراد الطبيعة، واستصحاب عدم أخذ القيد الزائد لا يُثبت الجعل للطبيعة الفاقدة لهذا القيد المشكوك إلا بنحو الأصل المثبت.
الوجه الثاني: ما قلنا من أنّه حتى بناءً على إنكار الإنحلال في الجعل فلا إشكال في ثبوت الإنحلال في المجعول أو فقل الانحلال في الحكم الفعلي، فإذا قال المولى “الدم نجس” فالعرف يرى –وإن كان الجعل واحداً- ثبوت هذا الوصف المجعول للطبيعة لكلّ فردٍ من أفراد الطبيعة، فهذا الدم نجس، ذاك الدم نجس، وهكذا… واستصحاب عدم التقييد لا يثبت المجعول والحكم الفعلي للفاقد للقيد؛ لأنّ الإنحلال في المفعول لازم الإطلاق وليس عين الإطلاق، وليس لازماً شرعيا له، أي ليس أثراً شرعياً له حتى نقول أنّ استصحاب عدم التقييد أثبت الإطلاق وبالتالي نرتب الأثر الشرعي للإطلاق وهو الإنحلال في المجعول، بل الإنحلال في المجعول لازم عقلي أو عقلائي للإطلاق.
[مناقشة صاحب البحوثرحمه الله]
هنا تعرضنا لكلامٍ لصاحب البحوث رحمه الله، فإنّه ذكر في بعض كلماته أنّ الأثر يترتب على قيام الحجّة على كبرى الجعل وتحقق موضوعها، فإن كان هناك مجعولٌ وراء كبرى الجعل وتحقق موضوعها فليس بمهمٍّ، ولأجل ذلك هو قال في الاستصحاب التعليقي نحن لا يمكننا أن نثبت مثلاً أنّ الزبيب بعدما غلى يصير حراماً وإنّما يمكننا أن نثبت بقاء الحكم التعليقي في حقه وأنّه يحرم إذا غلى، فإذا ضُمّ إليه إحراز غليانه فالعقل يلزمنا بالاجتناب عن الزبيب المغلي من دون أن يثبت وصف الحرمة له، وحينئذٍ يقال: لماذا أنتم ركّزتم على إثبات المجعول بالعرض؟ المهم أنّ استصحاب عدم التقييد أثبت الإطلاق في الجعل بناءً على كون الإطلاق عدم التقييد، فأحرزنا إطلاق الجعل وأحرزنا تحقق الموضوع، خلص، العقل يلزمنا بإثبات الأثر وترتب الأثر.
مثلاً: استصحبنا عدم أخذ قيد العربية في عقد النكاح، فأحرزنا بضم الوجدان إلى الأصل إطلاق الجعل وأنّه جعلت الزوجية لعقد النكاح من دون أخذ قيدٍ زائدٍ عليه، فإذا تحقق العقد الفارسي فنرتب أثر الزوجية وهذا حكمٌ عقليٌّ ثابتٌ عند قيام الحجّة على كبرى الجعل وتحقق موضوعها.
نقول في الجواب:
أولاً:
هذا المبنى ليس صحيحاً؛ فإنّ الأثر الشرعي -وهو جواز الاستمتاع مثلاً- موضوعه الزوجيّة لا كبرى الجعل وتحقق موضوعها، الشارع قال: يجوز الاستمتاع من الزوجة، فلا بدّ أن نثبت الزوجية كي نرتب أثر جواز الاستمتاع، فإن تمّ دعوى البحوث فإنّم يتمّ في المنجزيّة والمعذريّة فقط. إذا قامت الحجة على كبرى جعل حكمٍ تكليفي وقامت الحجة على تحقق موضوعها فبالإمكان أن يقال بأنّ العقل ينجّز علينا إمتثال ذلك التكليف ولا حاجة إلى إحراز التكليف الفعلي كما في قضية لزوم الاجتناب عن الزبيب المغلي أما في الآثار الشرعية فهي مترتبةٌ على الأحكام الفعليّة كزواج الاستمتاع؛ فإنّه مترتبٌ على تحقق الزوجية بالفعل بين رجلٍ وامرأة.
وثانياً:
حتى بلحاظ الأثر العقلي وهو المنجزية والمعذرية نقول: حتى بالنسبة إلى أثر المنجزية والمعذريّة العقليتين فلو اكتفينا في سائر المجالات بإحراز كبرى الجعل وتحقق موضوعها ولكن إذا شك في سعة كبرى الجعل وضيقها وأردنا أن نثبت سعة كبرى الجعل باستصحاب عدم التقييد العقل لا يحكم بالمنجزيّة في موردٍ ينتفي فيه القيد المشكوك؛ لأنّ المنجزيّة أثر اللحاظ الفنائي لعنوان الطبيعة في معنونها وقد ذكرنا أنّ استصحاب عدم أخذ القيد الزائد لا يثبت أنّ المولى لاحظ عنوان الطبيعة فانياً في معنونها.
توضيح ذلك:
إذا لم ندري أن الشارع أوجب إكرام العالم أو أوجب إكرام العالم العادل، استصحاب عدم أخذ قيد العادل لا يثبت أنّ المولى لاحظ عنوان العالم فانياً في معنونه وهو طبيعي العالم؛ لأنّ هذا ليس قدراً متيقناً؛ فإنّه لو كان الملحوظ في نفس المولى عنوان العالم العادل فقد لوحظ هذا العنوان المقيّد فانياً في الحصّة لا فانياً في شيئين أحدهما قدر متيقن والآخر مشكوك، المفني فيه مرددٌ بين أن يكون هو الحصّة، يُرى العالم العادل هذا اللفظ يكون فانياً فيه أو أنّ المفني فيه هو طبيعي العالم، استصحاب عدم أخذ القيد الزائد لا يثبت أنّ المفني فيه في لحاظ المولى طبيعي العالم، وما دام لم يثبت ذلك فالعقل لا يحكم بثبوت المنجزيّة بالنسبة إلى وجوب إكرام العالم الذي ليس بعادلٍ.
وأوضح من ذلك: ما لو كان المكلف مردّداً بين الأقل والأكثر، لا ندري هل الشارع قال: المكلف يجب عليه الحجّ أو قال المكلف المستطيع يجب عليه الحج؟
فحتى لو أنكرنا الإنحلال في الجعل كما أنكره السيد الخميني وصاحب البحوث ‚ ولكن مع ذلك استصحاب عدم أخذ قيد المستطيع في الموضوع لا يثبت وجوب الحج كحكمٍ فعلي بالنسبة إلى المكلف الذي ليس مستطيعاً أي ليس له بالفعل مال يحجّ به وإن كان يقدر على اكتسابه. ومع الغمض عن قضية الانحلال في المجعول ما دام لم يثبت أنّ المولى لاحظ عنوان المكلّف فانياً في طبيعي المكلّف فالعقل لا يحكم بتنجّز الحجّ على المكلف الذي ليس مستطيعاً، ما دام يُحتمل أنّ المفني فيه هو حصّةٌ خاصّة من المكلف وهو المكلف الذي له مالٌ، المكلف الموسر والغني.
الوجه الثالث في الإشكال على إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد: ما قد يقال من أنّه استصحابٌ في الأعدام الأزليّة، وهذا ممّا لا يقول به الكل ونحن ذهبنها إلى عدم جريانه.
توضيح ذلك:
أنّه قد يقال: بأنّ هذا الجعل حين وجوده إما كان مطلقاً أو مقيداً، فاستصحاب عدم كون مقيداً يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وكلما كانت الحالة السابقة للمستصحب على نحو السالبة المحصّلة بانتفاء الموضوع يكون من استصحاب العدم الأزلي، وهذا مما يظهر من كلام السيد الخميني قدس سره.
[جواب الوجه الثالث]
ولكن نحن حاولنا أن نجيب عن هذا الوجه الثالث بأنّ نقول:
لماذا جعلتم الموضوع هو الجعل؟ اجعل الموضوع الشارع؛ قولوا الشارع كان موجوداً ولم يأخذ قيد العربية مثلاً في موضوع الحكم بالزوجيّة، فلا يبعد أن يكون هذا الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في الأعدام النعتية دون الأعدام الأزلية؛ لأنّه لا يرجع إلى السالبة بانتفاء الموضوع.
إذا وصلنا إلى نتيجة أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق كما هو منهج الأعلام في الفقه، فإنّهم وإن تمسكوا بأصالة البراءة عن الشرطية كشرطية العربية لإثبات نفوذ عقد النكاح الفارسي ولكنهم لم يستدلوا باستصحاب عدم التقييد لإثبات الإطلاق كما فيما لو دار الأمر بين وجوب إكرام العالم أو وجوب إكرام العالم العادل، كلهم أجروا البراءة عن وجوب إكرام العالم الذي ليس بعادلٍ؛ لأنّه هناك لا يصح أن يقال: نجري البراءة عن أصالة العدالة؛ لأنّ هذا ليس أثراً امتنانياً بل نتيجة هذه البراءة إلقاء المكلف في كلفة إكرام العالم غير العادل. والبراءة عن الشرطية والجزئية أيضاً ذكرنا في بحث البراءة أنّها لا يمكنها أن تثبت إطلاق الموضوع وبلا شرطية الموضوع لأنّ البراءة عن شرطية العربية مثلا لا يمكنها أن تثبت أنّ العقد الفارسي يترتب عليه ماذا؟ أثر الزوجية.
نعم، بقيت تلك الأزمة، تلك العويصة الفقهية التي أثارها في البحوث في الفقه في الجزء الأول ص 151 من أنّه إذا اغتسل شخصٌ من الجنابة مع إجراء البراءة عن رعاية الترتيب بين اليمين واليسار كيف يمكنه أن يدخل المسجد؟ فإنّ البراءة عن شرطية الترتيب لا تثبت الإطلاق، لا تثبت كون الموضوع لا بشرط. فلا يوجد أصلٌ حاكمٌ على استصحاب بقاء حرمة الدخول في المسجد، وذكرنا أنّ ما يُدعى من أنّ جواز الدخول في المسجد مترتب على الغسل الصحيح الأعم من الواقعي والظاهري غير متجهٍ، لأنّه لا دليل على ترتب هذا الأثر على الغسل الصحيح الظاهري حتى لو كان في الخطاب أنّ الغسل الصحيح موضوع لجواز الدخول في المسجد؛ فإنّ ظاهر العنوان أنّه مشيرٌ إلى الواقع كما بينه السيد الخوئي رحمه الله في بحث الإجزاء من أنّ عنوان الطاهر أو عنوان الحلال، عنوان النجس ظاهر في الحلال الواقعي أو الطاهر الواقعي أو النجس الواقعي، فلو صلّى في ثوبٍ مستصحب النجاسة رجاءً ثم تبين له أنّ ذلك الثوب قد غُسل، فلا يقال: لماذا صليت بالثوب النجس ظاهره، لا. “لا تصلّ بالنجس” ظاهرٌ في النهي عن الصلاة بالنجس الواقعي. فحتى لو قيل الغسل الصحيح موضوعٌ لجواز الدخول في المسجد فظاهره أنّ الغسل الصحيح الواقعي لجواز الدخول في المسجد والبراءة عن شرطية الترتيب بين اليمين واليسار وإن جعلتنا معذورين في ترك هذا الشرط المشكوك بالنسبة إلى الصلاة التي هي متعلّق للتكليف ولكن لم تثبت أنّ هذا الغسل صحيح واقعي فيترتب عليه أثر الصحيح الواقعي وهو جواز الدخول في المسجد.
نحن حاولنا في بحث البراءة أن نتمسك بالإطلاق المقامي لدليل البراءة استناداً إلى الغفلة النوعية حيث إنّ البلاء والمتشرعة بعدما أحسوا أنّ هذا الغسل صحيح واقعي فمن باب الغفلة النوعية يرتبون عليه أثر الصحيح الواقعي، من باب الغفلة النوعية، والشاهد على ذلك عدم التفات الفقهاء إلى هذا الإشكال، حتى السيد الصدر الذي أثار هذا الإشكال لم يعمل ولم يبقى وافياً بهذا الإشكال في فتاواه، فأجرى البراءة في مناسك الحج في موارد تكون موضوع للحكم مع أنّ البراءة هناك لا تثبت كون هذا الفرد الفاقد للقيد المشكوك موضوعاً لذلك الأثر، فجوز الذبح في مكانٍ مشكوك كونه منى من باب الشبهة المفهومية وجوز الحلق في مكان مشكوكٍ أنّه منى بنحو الشبهة المفهومية ولم يعترض عليه بأنّ هذا لا يثبت كون الذبح أو الحلق بإطلاقهما موضوع للتحلل من الإحرام، فلا أصل حاكم على استصحاب على بقاء حرمة محرمات الإحرام.
ونحن حينما وجهنا هذا الإشكال على تلميذه حينما كان يأتي إلى الحج فتحيّر وتعجّب وتردد في ذلك في بدو الأمر، فلما راجع رأى هذا الإشكال فحاول أن يجيب عن هذا الإشكال في خصوص مسألةٍ وهي التمسك بأصل البراءة في السعي أو في الذبح، في السعي من الطابق العلوي تمسكاً بأصل البراءة حيث يشك بنحو الشبهة المفهومية أنّه سعيٌ بين الجبلين أو سعي فوق الجبلين، كان يقول: شبهة مفهومية لأننا لا نعرف أنّ جبل الصفا موضوعٌ لأيّ مقدار؟ موضوعٌ لهذا المقدار المرتفع الذي يصل إلى الطابق العلوي أو إلى إمتداد المسعى الذي وُسّع أخيراً أو لا؟ كان يقول أنّه شبهة مفهومية فيجري البراءة وإلى حد الآن يجري البراءة، أو أجرى البراءة في كفاية الذبح في مكان يشك أنّه منى بنحو الشبهة المفهومية.
فأشكلنا عليه: بأنّ هذا لا يثبت التحلل من الإحرام فيجري استصحاب بقاء الإحرام وبقاء محرّمات الإحرام، ثمّ لما رجع من الحج ألحق إلى مناسكه ورقةً ذكر فيها هذا الإشكال وأجاب عنه بجوابٍ غير مقنع ثمّ أدرج الإشكال والجواب في متن المناسك التي له، ولكن نحن قلنا له مباشرةً بأنّ جوابكم هذا غير مقنع وقابلٌ للإشكال ولا نتعرض إليه.
يقع الكلام في مقدمات الحكمة غداً إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.