بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 54 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: المطلق والمقيد الدرس: الأصول
التاريخ: السبت، 6 رجب، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في ثمرات النزاع حول تقابل الإطلاق والتقييد الثبوتيّين، وقبل أن أستمرّ في هذا البحث أنقل كلاماً عن بعض المعاصرين حول ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من أنّه وإن كان التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل التضادّ لكن هذا لا يعني أنّه يمكن أن لا يكون في مقام الثبوت إطلاقٌ ولا تقيّيدٌ في مقام الجعل بل يثبت الإهمال، بل حتى لو امتنع التقييد يجب الإطلاق، هذا كلام السيد الخوئي رحمه الله.
بعض المعاصرين من تلامذة السيد الصدر رحمه الله ناقش في كلام السيد الخوئي رحمه الله فقال:
أ. بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقيّيد تقابل السلب والإيجاب،: إذا استحال التقييد وجب الإطلاق لأنّ الإطلاق ليس إلا عدم التقييد.
ب. وأمّاً بناءً على ما يذكره السيد الخوئي من أنّ الإطلاق يختلف عن الماهيّة المهملة، الماهية المطلقة تختلف عن الماهية المهملة، فالماهية المطلقة تتقوّم بلحاظ السريان، يقول هذا المستشكل: إذاً يمكن للشارع أن يفرض الحكم على ماهيّةٍ بلا لحاظ سريانها في أفرادها وذلك فيما إذا كان غرض المولى مختصّاً بحصّةٍ من الطبيعة، كما إذا أوجب الجهر في صلاة الصبح على المكلّف فإنّه لا يتمكن من أن يقيّد المكلّف بالمكلّف العالم بوجوب الجهر؛ فإنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه مستحيل، ولكن قد يكون غرض المولى في إيجاب الجهر مختصّاً بفرض العلم بوجوب الجهر، ولأجل ذلك يأتي المولى بمتمم الجعل الذي يكون منتجاً لنتيجة التقييد، فيقول: إذا أخفت شخصٌ في موضعٍ ينبغي الجهر فيه وهو لا يدري فقد تمّت صلاته ولا شيء عليه، يقول هذا المستشكل: إذاً المولى يجعل وجوب الجهر في حق المكلّف ولكن لا يلحظ سريان الطبيعة في جميع أفرادها أي لا يلحظ سريان المكلّف بالنسبة إلى المكلّف الجاهل بالحكم، فإذاً على مسلككم تترتّب هذه الثمرة وإن أنكرتموها، وهذه الثمرة هي أنّه يوجد شقٌّ ثالث بين التقييد الثبوتي والإطلاق الثبوتي، فكلّما امتنع التقييد لا يعني وجوب الإطلاق.
وهكذا أورد السيد الزنجاني ‘ على قول المشهور ومنهم السيد الخوئي رحمه الله بامتناع الإهمال الثبوتي، فقال: الإنسان حينما يلحظ طبيعةً فلا يعني أنّه لاحظ جميع خصوصياتها؛ فقد يكون غافلاً عن الخصوصيات، فترون أنّه لو نذر شخصٌ أن يصوم إلى اليوم الخامس والعشرين من رجب، لا يلتفت إلى أنّ اليوم الخامس والعشرين داخل في نذره أن يصوم أو خارج عن نذره، فلو سُئل هذا الناذر وقيل له: هل تنوي نذر صوم اليوم الخامس وعشرين من رجب؟ يقول: ما كنت ملتفتاً. أو في العقد المنقطع؛ يحدّد الأجل إلى اليوم العشرين من شهر رجب، أيضاً من ناحية أنّه لم يفكر أول اليوم العشرين أو آخر اليوم العشرين وأيضاً لم يفكر أنّه متى ينتهي اليوم الخامس والعشرون من رجب؛ بغروب الشمس؟ بزوال الحمرة المشرقية؟ بمنتصف الليل؟ ما يدري؛ لأنّه لم يفكر، لم يلتفت إلى الخصوصيات.
[سؤال، وجوابه] إذا هو ملتفتٌ إجمالاً بحيث لو سُئل لما تردد فكيف ترونه مترددا؟ كلّما يُسئل يقول: ما أدري، ليس جوابه إلا قول “لا أدري”.
[دفع الإشكالين عن مختار السيد الخوئي]
الظاهر: عدم تماميّة كلا الإشكالين:
1. أمّا إشكال بعض المعاصرين، فنقول: صرّح السيد الخوئي رحمه الله بأنّ مرادي من الإطلاق هو لحاظ المولى عدم أخذ القيد الزائد في موضوع الجعل، ويقول: هذا المولى الذي يرى أنّ الملاك مختصٌّ في وجوب الجهر بالمكلّف العالم بالوجوب لكنّه يرى امتناع هذا التقييد فهو ملتفتٌ إلى أنّه لم يأخذ هذا القيد الزائد في موضوع الجعل، كيف يكون الجاعل حين جعله جاهلاً بكيفية جعله؟! هذا مستحيل، وحينما يعبّر عن الماهية المطلقة بلحاظ السريان يقصد هذا المعنى؛ يقصد أنّه ملتفتٌ إلى أنّ موضوع جعله هو المكلّف وهذا يسري إلى جميع أفراده لالتفاته إلى عدم أخذ قيدٍ زائدٍ مع هذه الطبيعة.
نعم، لو كان مقصود السيد الخوئي رحمه الله من الماهية المطلقة في مقام الجعل إلتفات المولى ولحاظ المولى عدم دخل القيد الزائد في غرضه، إذا كان هذا هو المقصود فحتى أنتم اللي تعتقدون أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل السلب والإيجاب لازم تلتزمون بأنّه إذا امتنع التقييد لا يجب الإطلاق إذا كان الإطلاق بمعنى لحاظ المولى عدم دخل القيد الزائد في غرضه، أنتم حينما تصلون إلى مبناكم تقولون بأنّ: الإطلاق هو عدم أخذ القيد الزائد في موضوع الجعل في قبال التقييد وهو أخذ القيد الزائد في موضوع الجعل، حينما تصلون إلى مبنى السيد الخوئي الذي يقول بأنّ التقييد هو أخذ قيد زائد في موضوع الجعل والإطلاق لحاظ عدم أخذ القيد الزائد في موضوع الجعل تعترضون عليه؟! تقولون: قد لا يلحظ المولى عدم دخل القيد الزائد في غرضه! فلا معنى له.
نعم، ذكرنا أنّ النزاع بين السيد الخوئي والشيخ النائيني حيث يقول الشيخ النائيني قدس سره بأنّ امتناع التقييد يوجب امتناع الإطلاق الثبوتي ويجب الإهمال، لعلّ مقصود النائيني قدس سره الإهمال بلحاظ الكشف عن سعة الغرض، وهذا ممّا لا ينبغي أن ينكره السيد الخوئي رحمه الله، وحينما يقول السيد الخوئي رحمه الله بأنّ امتناع التقييد يوجب ضرورة الإطلاق يعني التفات المولى إلى عدم أخذ القيد الزائد في موضوع جعله وإن كان دخيلاً في غرضه، وهذا مما لا ينبغي أن ينكره الشيخ النائيني قدس سره.
2. وأمّا كلام السيد الزنجاني ‘:
أقول: هذا المثال اللي ذكرتم أنّ الناذر قد يكون غافلاً عن الخصوصيات، قد يكون الملحوظ في ذهنه من الطبيعة الحصّة الواجدة للقيد، فحينما يقول: لله عليّ أن لا آكل اللحم إمّا لكونه مضرّاً بالبدن أو مضرّاً بالمال لغلائه، يقول: أنا ما كنت أتصور أنّه يوجد لحمٌ غير اللحم الأحمر، آكل لحم رخيص وأنا ما كنت أتصور أنّ اللحم ينقسم إلى لحمٍ أحمر ولحمٍ أصفر مثلاً، أحضروا لحماً أصفر وقالوا: هذا حلال وإن كان مكروه. هذا يعني أنّه لاحظ من خلال الطبيعة الحصّة وهذا هو الذي يسميّه السيد السيستاني بالتقييد الذاتي؛ “لله عليّ أن لا أشرب الحليب” جاؤوا بحليب –كرمكم الله- الحمار وقالوا: ما تدري كم هو مفيد لقوة الذاكرة مثلاً، هو يقول: حينما أنا نذرت أنا لا أشرب الحليب أنا ما كنت أتصور من الحليب إلا حليب البقر، حليب الماعز، فلا إشكال؛ هذا يوجب الإنصراف وأمّا حينما يقول: أنا متردد، ما فكرت، هذا يعني أنّ الحصّة الفاقدة لهذا القيد الذي لم يفكّر فيه خارجٌ عن متعلّق نذره، “لله عليّ أن أصوم إلى اليوم الخامس والعشرين”:
– إمّا أنّ العرف يحدّد، يقول: الغاية داخلةٌ في المغيي عرفاًً، هذا يقول: أنا قصدي هو ما يكون ظاهر عرفاً من هذا اللفظ فلا إشكال.
– وإذا كان العرف يتحيّر في تشخيص أنّ الغاية داخلةٌ في المغيّى أو خارجةٌ عنه؟
فهذا يعني أنّه لم ينذر، الواقع ما يمكن أن يكون بلا تعيّن، إمّا ناذر وإما غير ناذر، الإهمال الثبوتي مثلما نقول: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم، متردد، أنا متردد لا إشكال أمّا عالم الواقع فيه تردد واقعي وعدم لا يمكن، غير معقول، هذا ناذرٌ أو غير ناذر، ناذر فيدخل اليوم الخامس والعشرون في متعلّق النذر وإلا فليس ناذراً، فأين الإهمال؟
نعم، لو كان يلتفت إلى الخصوصيات لكان قد يوسّع في نذره، لو كان يطلق نذره إطلاقاً لحاظياً أو يقيّد نذره تقييدا لحاظياً وأما الآن الذي هو ليس بملتفتٍ إلى الخصوصيّات فحينما ينذر هو ليس العنوان الذي نذره واقعٌ عرفيّ معيّن فهذا أنّه لم يتعيّن النذر بالزائد إذ لا يمكن أن نقول: لا نذره ولا لم ينذره.
وهذا مع أنّ كون الإهمال الثبوتي غير معقول، نعم بلحاظ أنّ المولى قد لا يلتفت إلى وجدان الطبيعة المطلقة للملاك أو اختصاص الملاك بحصّةٍ من الطبيعة هذا طبيعي، قد لا يتصوّر المولى العرفي سعّة الملاك وضيقه، ولكن في مقام الجعل أو في مقام النذر لا يمكن الإهمال، إمّا ناذر أو ليس ناذراً، إمّا جاعل للوجوب أو غير جاعلٍ للوجوب ولا معنى للإهمال فيه.
[ثمرة النزاع]
هذا ما كان ينبغي التعرّض إليه ولكن نعود إلى البحث عن الثمرة المهمّة بين القول بالتقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل التضاد وبين القول بكون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب:
أنا ألفت نظركم إلى مطلبٍ اعتبروه كإشكال على كلام السيد السيستاني ‘:
السيد السيستاني = قال: استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق بناءً على مسلكنا من كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة كما لا يمكن بناءً على مسلك التضادّ أن يثبت باستصحاب عدم التقييد الإطلاق؛ لكونه من إثبات ضدٍّ باستصحاب عدم ضدّه، وإنّما يمكن إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد بناءً على تقابل السلب والإيحاب.
أنا أقول: يا سيدنا الله يحفظك: إنّما يكون إثبات عدم الملكة –كالعمى- باستصحاب عدم البصر أصلاً مثبتاً فيما إذا كان لعنوان عدم الملكة موضوعيّة كما لو أمر الشارع بأخذ يد الأعمى “خذ بيد الأعمى” هذا قبل أن يولد، بداية انعقاد نطفته لم يكن له بصر، فنستصحب عدم البصر له ونضمّ ذلك إلى إحراز كونه فعلاً قابلاً للبصر فنثبت بذلك أنّه أعمى يكون أصل مثبت، وما دام لم نثبت أنّه أعمى كيف نرتّب عليه أثر الأعمى، صحيح.
أمّا نسألكم: هل عنوان المطلق موضوعٌ لأثرٍ شرعيٍّ في الخطابات الشرعيّة؟ أبداً؛ الأثر مترتبٌ على الواقع لا على هذا العنوان البسيط، والواقع هو عدم التقييد مع كون المحلّ قابلاً للتقييد، المحلّ قابلٌ للتقييد بالوجدان واستصحاب عدم التقييد يثبت عدم التقييد ولا حاجة لنا في إثبات عنوان المطلق؛ لأنّ لا نبحث عن أثرٍ شرعيٍّ يترتب على هذا العنوان بل نتبع الأثر العقلي، أو نتبع الأثر الشرعيّ المترتب على واقع الإطلاق لا على عنوان الإطلاق، نقول: إذا حكم الشارع بكون الطواف سبباً لحليّة محرّمات الإحرام ولم يكن مقيّداً بكون الطواف بين البيت والمقام فبعد أن طفنا خارج البيت والمقام نتحلل من الإحرام، ليس هذا الأثر الشرعي مترتباً على ماذا؟ مترتباً على عنوان إطلاق الطواف بل على واقعه وهو الطواف غير المقيّد، الطواف الذي لم يقيّد بكونه بين البيت والمقام.
فإذاً على مسلك السيد السيستاني ‘ لا مانع من أن نجري استصحاب عدم التقييد لإثبات الإطلاق إذا تخلّصنا عن محاذير إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد بناءً على كون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب.
وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.