بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 42 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: النواهي (اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد) الدرس: الأصول
التاريخ: الأحد: 15/5/2022 (13/ شوال/ 1443 ه)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في روايتين استُدلّ بهما على كون النهي التكليفيّ عن المعاملات مقتضياً لفسادها، قرأنا الرواية الأولى وهي صحيحة زرارة حيث ورد فيها أنّ الإمام علیه السلام ردّ على من يقول بأنّ نكاح العبد بدون إذن مولاه فاسدٌ لا يقبل التصحيح بإجازة المولى، فردّ عليه الإمام علیه السلام قال: إنّه لم يعصِ الله وإنّما عصى سيده فإذا أجازه فهو له جائز.
فيقال بأنّ مفاد هذه الصحيحة: أنّه لو كان عاصياً لله تمّ ما ذكروه من أنّه يصير النكاح فاسداً ولا يقبل التصحيح، فكلّما كان العقد مصداقاً لعصيان الله تعالى فهو فاسد،
فإن تمّ الاستدلال بهذه الصحيحة فلا يختصّ بالنهي عن المسبب، حتى لو كان النهي عن السبب كالنهي عن البيع حال الاعتكاف جرى فيه هذا الاستدلال.
[الرواية الثانية: معتبرة موسى بن بكر]
والرواية الثانية معتبرة موسى بن بكر؛ موسى بن بكر: لم يرد في حقه توثيقٌ خاص ولكنّه من مشايخ صفوان فهو ثقةٌ بنظرنا.
السيد الخوئي رحمه الله استدلّ بروايةٍ ورد فيها: صفوان عن موسى بن بكر عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: هذا ممّا لا اختلاف فيه بين أصحابنا أنّه روي عن الإمام علیه السلام: كذا، فيقول السيد الخوئي “قال: هذا“ يعني قال صفوان هذا ممّا لا اختلاف فيه بين أصحابنا، يعني هذا الذي ينقله موسى بن بكر ليس فيه اختلافٌ بين أصحابنا، فكأنّه لا اختلاف بين الأصحاب في وثاقة موسى بن بكر.
وهذا غريبٌ؛ لأنّ هذا التعبير منقول عن زرارة وورد مثل هذا التعبير في روايةٍ أخرى عن زرارة “هذا ممّا لا اختلاف فيه بين أصحابنا أنّه روي عن أبي جعفر علیه السلام” هذا كلام زرارة، ما هي علاقته بصفوان؟ على أنّه لو قال صفوان “هذا ممّا لا اختلاف فيه بين أصحابنا“ ما هي علاقته بتوثيق موسى بن بكر؟!
والمهم أنّه من مشايخ صفوان فهو ثقةٌ بنظرنا.
موسى بن بكر عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: “سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ عَبْدُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مَوْلَاهُ فَقَالَعلیه السلام: ذَلِكَ إِلَى مَوْلَاهُ إِنْ شَاءَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَ إِنْ شَاءَ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَلِلْمَرْأَةِ مَا أَصْدَقَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ اعْتَدَى فَأَصْدَقَهَا صَدَاقاً كَثِيراً وَ إِنْ أَجَازَ نِكَاحَهُ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا الْأَوَّلِ، فَقُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام: فَإِنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ عَاصِياً فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: إِنَّمَا أَتَى شَيْئاً حَلَالًا وَ لَيْسَ بِعَاصٍ لِلَّهِ إِنَّمَا عَصَى سَيِّدَهُ وَ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَإِتْيَانِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحٍ فِي عِدَّةٍ وَ أَشْبَاهِهِ“
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية نفس التقريب الذي مرّ في الاستدلال بالرواية الأولى.
[تفصيل المحقق النائيني رحمه الله]
المحقق النائيني رحمه الله قبِل الاستدلال بهما ولكن قال:
يختص مورد الروايتين بالنهي التكليفي عن المعاملة بعنوانها الأوليّ وإلّا فنكاح العبد بدون إذن مولاه حيث إنّه عصيانٌ لمولاه فعصيان لله تعالى بالعنوان الثانوي؛ لأنّ عصيان السيد حرام شرعاً، فحينما يقول الإمام علیه السلام “ليس عاصياً لله” يعني ليس عاصياً لله بالعنوان الأولي، فلو كان عاصياً لله بالعنوان الأولي كان ذلك مقتضياً لفساد عقده، وقبِل السيد الخميني قدس سره هذا الاستدلال.
[إنكار جماعةٍ لدلالة الروايتين]
ولكن ذكر جماعةٌ أنّ الاستدلال بهاتين الروايتين غير متجه؛ فذكر السيد الخوئي وهكذا ذكر في البحوث ‚:
أنّ الظاهر من قوله “وإنّما عصى سيده” العصيان الوضعيّ للسيد، يعني إتيان عقدٍ لا يقبله المولى لا العصيان التكليفي، وبقرينة المماثلة نقول: نفي عصيانه تعالى أيضاً يعني أنّه ليس بعاصٍ لله وضعاً، يعني لم يأتِ بعقدٍ باطل حتى لا يقبل التصحيح وإنّما أتى بعقدٍ لا يقبله المولى فإذا قبله المولى فيصحّ العقد.
[توجيه السيد الخوئي رحمه الله]
السيد الخوئي رحمه الله ذكر في وجه هذا الكلام: أنّ زواج العبد بدون إذن مولاه ليس حراماً شرعاً؛ تكلّمٌ، فهل يحرم تكلّم العبد بدون إذن مولاه؟ أتلتزمون بأنّه لو صار العبد وكيلاً عن غيره في تزويجه لا ينفذ تزويجه؟ لا يلتزم أحدٌ بذلك.
فالمراد: أنّه لو كان عاصياً لله وضعاً أي قد أتى بعقدٍ باطل كما في مثال الرواية الثانية بالنكاح في العدّة فلا يقبل التصحيح، وهذا كلامٌ متين ولا يقتضي أن يكون العقد الذي حرّمه الله تكليفاً باطلاً.
يرد عليه:
أولاً: ما هو الدليل على أنّ زواج العبد بدون إذن مولاه لا يكون حراماً شرعاً؟ ما هو الدليل على ذلك؟ فيختلف عن مجرّد التكلم بدون إذن المولى؛ تصرّف مهّم في شؤون العبد بدون إذن المولى، من أين نقول بأنّه لا يحرم تكليفاً؟ تمرّدٌ على المولى.
وثانياً: هل فُرض في الصحيحة أنّ عصيان السيد حرام شرعاً حتى نقول بأنّ تكلّم العبد بدون إذن مولاه قطعاً ليس بحرامٍ شرعاً؟!
قال: زواج العبد بدون إذن مولاه تمرّدٌ على المولى وعصيانٌ له، ما قال هذا حرام شرعاً، فمجرّد القطع بعدم حرمته شرعاً لا يكون قرينةً على حمل العصيان للسيد على العصيان الوضعي.
كيف ولا دليل على أنّ ذاك المولى الذي رجع إلى الإمام علیه السلام كان يرى عدم نفوذ عقد عبده بدون إذن مولاه؟ اعترض على العبد لماذا تزوّجت بغير إذني، ما كان يعلم بأنّ هذا العقد ليس صحيحاً، من أين نقول بأنّ المولى ما كان يرى صحّة هذا العقد؟ كان يرى أنّ هذا الزواج كزواج الولد بدون إذن أبيه في العشائر، تمرّدٌ على الأب، الأب لا يقول زواجك باطل يقول أنت ولد عاق، كيف ذهبت وتزوجت من دون أن تستشير أبوك؟! لا أنّهم يرون هذا العقد باطلاً.
فالمولى إذاً من أين نقول بأنّه كان يرى أنّ هذا العقد باطل فيكون عصياناً وضعياً له؟ لا، لعلّه قال هذا تمرّد وخروج عن ذيّ العبوديّة.
فإذاً ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من وجود قرينةٍ على حمل العصيان على العصيان الوضعي غير متجّه.
[توجيه الشهيد الصدر رحمه الله]
في البحوث ذكر قرائن أخرى على حمل العصيان على العصيان الوضعي، منها:
[القرينة الأولى]: أنّه لم يُفرض في الرواية أنّ العبد تزوج مع نهي سيده، لم يفرض في الرواية ذلك، تزوج بغير إذن سيده، ومجرّد الزواج بغير إذن السيد لا يكون عصياناً تكليفياً له، العصيان التكليفي يعني مخالفة نهيه، لم يُفرض أنّه نهى عن ذلك، فلا بدّ من حمل العصيان على العصيان الوضعيّ للسيد أي تزوّج زواجاً لا يقبله السيد لا أنّه نهاه عنه، وبقرينة المماثلة يكون نفي عصيان الله تعالى نفي عصيانه وضعاً أي نفي أنّه أتى بعقدٍ باطلٍ شرعاً وهذا خارج عن محل الكلام؛ الكلام في إتيان عقدٍ حرّمه الله تكليفاً.
هذه القرينة غير تامّةٍ؛ العبد في عرف ذلك الزمان لعلّه بمجرّد أن يتزوج بغير إذن مولاه يُرى في نظر العرف متمّرد وخارج عن ذيّ العبودية، خارج عن قدر العبوديّة وإلّا مجرّد اعتبار إذن المولى في صحة عقد العبد لا يكون قرينةً على أن نقول بأنّه عصى سيده، فهل ترون أنّ الرجل إذا تزوّج بابنة أخت زوجته الأولى من دون إذن زوجته الأولى هل ترون أنّه عصى زوجته الأولى؟
ـ إذا نهته عن الزواج بابنة أختها أو بابنة أخيها يُقال: نعم، عصى هذا الرجل زوجته الأولى
ـ أمّا إذا لم يصدر منها نهيٌ، تزوّج هذا الرجل بدون إذنها، تزوّج بابنة أخيها أو بابنة أختها، لا يقال هذا الرجل عصى زوجته الأولى بمجرّد أنّه يعتبر في زواج الرجل بابنة أخت امرأته أو بابنة أخ امرأته إذن تلك المرأة الأولى.
القرينة الثانية التي أقامها في البحوث على حمل العصيان على العصيان الوضعيّ:
قال رحمه الله: ظاهر الرواية أنّ العصيان للسيد يرتفع بإجازة السيد لهذا الزواج لاحقاً؛ إنّه عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز، ما يرتفع بالإجازة اللاحقة هو العصيان الوضعيّ، يعني الزواج الذي لا يعترف به المولى بإجازة المولى ينقلب إلى عقدٍ يعترف به المولى، أمّا العصيان التكليفي فلا يرتفع بالإجازة اللاحقة، مثل ما لو أنّ شخصاً دخل في الحمّام بغير إذن صاحب الحمّام واغتسل، ثمّ بعد أنّ خرج من الحمّام قال للحمّاميّ هل ترضى بغُسلي؟ قال: ما يخالف، الله يرضى عنك. هذا لا يُبدّل ذاك الحرام إلى الحلال؛ لماذا؟ لأنّه كيف يتبدّل الحرام بعد وقوعه إلى الحلال غير أنّ الشارع الآن يقول “رخّصت لك في غسلك السابق” هذا لغوٌ محض؛ رخّصت لك في الغسل السابق ما هذا؟ لا أثر له.
الحرام التكليفي والعصيان التكليفي لا ينقلب عمّا هو عليه بالإجازة اللاحقة، فالعصيان للسيد بعدما ارتفع بإجازته اللاحقة لا بدّ أن يحمل على العصيان الوضعيّ، أي الإتيان بعقد ليس ممّا يعترف به المولى ثمّ اعترف به، فهذا عصيانٌ وضعيٌّ للسيد وبقرينة المماثلة نحمل عصيان الله على عصيانه وضعاً أي إتيان عقدٍ فاسدٍ شرعاً.
هذه القرينة أيضاً غير تامّةٍ؛ لأنّه من أين يقول في البحوث أنّ عصيان السيد ارتفع تكويناً بإجازةٍ لاحقة؟
لم يرد في الرواية هذا المطلب، “إنّه عصى سيده” والآن لا يزال ذلك الفعل عصيان للسيد لكن عصيان السيد لا يمنع بقاءً عن صحّة ذلك العقد إذا لحقته الإجازة، عصيان للسيد لا يزال ذلك الفعل السابق مصداق للعصيان للسيد لا ينقلب عمّا هو عليه لكن عصيان السيد لا يمنع بقاءً من صحّة العقد إذا لوحق بإجازة السيد.
القرينة الثالثة: يقول في البحوث: ظاهر الرواية أنّ العبد لم يعصِ الله مع أنّه عصى الله تكليفاً، هو عصى الله تكليفاً لأنّه خالف سيده، عصى سيده، فعصى الله تكليفاً، نعم لم يعصِ الله وضعاً يعني لم يأتِ بعقدٍ باطل وإنّما أتى بعقدٍ صالحٍ لإجازة المولى، فلم يأتِ بعقدٍ باطلٍ شرعاً، لم يعصِ الله وضعاً لكنهّ عصى الله تكليفاً لأنّه خالف سيده.
نقول: هذه القرينة أيضاً غير تامّةٍ؛ لماذا؟
لأنّ ظاهر المقابلة بين عصيان الله تعالى وعصيان السيد ونفي كونه عاصياً لله وإثبات كونه عاصياً للسيد أنّه عاصياً لله من غير جهة عصيان السيد، يعني ليس عاصياً لله بعنوانه الأولّي، ليس عاصياً لله من جهات أخرى غير جهة عصيان السيد وإلّا فحتى العصيان الوضعيّ للسيد عصيانٌ وضعيٌّ لله تعالى؛ الإتيان بعقدٍ ليس مأذوناً من قِبل المولى ليس صحيحاً شرعاً، عصيانٌ وضعيٌ لله ما دام لم يلحقه الإجازة، فكما أنّ نفي العصيان الوضعيّ يكون بلحاظ ما عدا جهة عصيان السيد فكذلك نفي العصيان التكليفي لله يكون بلحاظ ما عدا جهة عصيان السيد.
مضافاً إلى ما ذكرناه من أنّه لم يُعلم أنّ عصيان السيد حرام تكليفاً، عصيانٌ للسيد كعصيان الأخ الأكبر، من أين نقول بأنّه حرامٌ شرعاً بقولٍ مطلق؟! بقول مطلق لا دليل على أنّ عصيان السيد حرامٌ شرعاً.
[المختار في المسألة]
فهذه القرائن غير تامّة ولكنّنا نقول مطلباً آخر فنتخلّص عن محذور الإستدلال بهاتين الروايتين على اقتضاء النهي التكليفيّ للمعاملات لفسادها، وهو أنّنا نقول:
لا يظهر من الروايتين أنّ قوله علیه السلام “لم يعصِ الله” جيء به لإثبات أنّ هذا العقد لا يكون باطلاً لأنّه ليس عاصياً لله حتى يُقال بأنّه يعني أنّه لو كان عاصياً لله بطل العقد، لا ليس معلوماً، لعلّ قوله علیه السلام“إنّه لم يعصِ الله” جيء به لإثبات أنّ منشأ عدم صحّة العقد لا بدّ أن يُلحظ هل هو منشأ إلهي أو منشأ مولولي؟
ـ منشأ عدم صحّة العقد عصيان الله؟ إذا كان منشأ عدم صحّة العقد عصيان الله تعالى فلا يكون قابلاً للتصحيح.
ـ وإذا كان منشأ عدم الصحّة عصيان المولى فيكون قابلاً للتصحيح بإجازة المولى.
وأمّا متى يكون العقد غير نافذٍ ومتى يكون نافذاً ليس في مقام البيان من هذه الجهة، كلّما كان عدم نفوذ العقد والذي هو متفقٌ عليه بين الفقهاء فيما لو إذا تزوج العبد بدون إذن مولاه، منشأ عدم نفوذ العقد إذا كان عصيان الله تعالى فهذا العقد ليس قابلاً للتصحيح بخلاف ما لو كان منشأ عدم نفوذه عصيان المولى.
ولكن هل كل عصيان لله تعالى يكون منشأ عدم النفوذ؟ لا ليس معلوماً؛ فلعلّ بعض مصاديق عصيان الله تعالى لا يكون منشأً لعدم نفوذ العقد كما لو نهى عن السبب، كما لو نهى عن البيع حال الاعتكاف، هذا ليس منشأً لعدم النفوذ، كلّما كان منشأ عدم نفوذ العقد عصيان الله تعالى فهذا العقد يبقى غير صحيحٍ إلى يوم القيامة.
هذا كلامٌ مضبوط لا يناقش فيه أحد أمّا عصيان الله تعالى دائماً يكون منشأً لعدم النفوذ؟ هذا غير معلوم، وبذلك تمّ البحث عن اقتضاء النهي التكليفي عن المعاملات للفساد، وسنتكلّم إن شاء الله في بحث المفاهيم.
والحمد لله ربّ العالمين.