بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 41 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: النواهي (اقتضاء النهي عن المعاملة للفساد) الدرس: الأصول
التاريخ: السبت: 14/5/2022 (12/ شوال/ 1443 ه)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في اقتضاء النهي عن المسبب في المعاملات للفساد، فنقلنا ثلاثة أقوال في المسألة:
القول الأول: ما اختاره صاحب الكفاية رحمه الله من أنّ النهي التكليفي عن المسبب في المعاملات يقتضي صحّتها.
وفسّرنا كلام صاحب الكفاية رحمه الله بما إذا كان مدلول خطاب النهي: النهي عن إيجاد النتيجة القانونيّة أي الملكيّة أو الزوجيّة ونحوهما.
فإذا ورد في الخطاب “من أوجد ملكية الكافر للعبد المسلم فعليه لعنة الله” فهذا يعني أنّ هذا المكلّف قادرٌ على إيجاد الملكيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم، وظاهر إيجاد الملكيّة هو إيجاد الملكيّة بنظر الشارع، فإذا عبّر الشارع بإيجاد الملكيّة فظاهره إيجاد الملكية بنظره لا بنظر غيره، ولا إشكال حينئذٍ في أنّ مفاد خطاب من أوجد الملكيّة للكافر بالنسبة إلى العبد المسلم فعليه لعنة الله أنّه يمكن إيجاد هذه الملكية الظاهرة في الملكيّة الشرعيّة، فهنا يتمّ كلام صاحب الكفاية.
لكن نحن: لم نجد مورداً في الفقه تعلّق خطاب النهي بعنوان إيجاد الملكيّة أو الزوجيّة، فقد تقولون: فعليه لا يوجد في الفقه نهيٌّ تكليفيٌّ عن المسبب في المعاملات.
فنقول في الجواب: الظاهر أنّ مرادهم من النهي عن المسبب هو:
أ. إمّا النهي عن البيع لا بنكتة مبغوضيّة الإيجاب والقبول كما في البيع في حال الاعتكاف بل بنكتة مبغوضيّة إيجاد الملكيّة، فإيجاد الملكيّة حيث كان مبغوضاً فسبّب ذلك أن يتعلّق خطاب النهي التكليفي بالبيع، وهكذا قد يتعلّق خطاب النهي بإنشاء الملكيّة أو الزوجيّة، إنشاء الملكيّة أو الزوجيّة غير إيجادهما، فالغاصب ينشىء ملكية المشتري للمال المغصوب لكنه لا يوجد ملكيته له.
فإذاً المحرّم التكليفي هو إمّا إيجاد البيع أو إنشاء الملكيّة أو إنشاء الزوجيّة ونحو ذلك، فقد ورد في الروايات أنّ المحرم لا يتزوج ولا يُزوّج فإن فعل فنكاحه باطل، وهذا لا يقتضي صحّة العقد، إذا تعلّق النهي بعنوان إيجاد النتيجة القانونيّة كإيجاد الزوجيّة أو إيجاد الملكيّة فحيث إنّ ظاهره إيجاد الزوجيّة أو الملكيّة الشرعيّة فهذا يقتضي قدرة المكلّف عليه وإلّا لما حرّمه الشارع حرمةً تكليفيّة.
ب. وأمّا إذا تعلّق النهي بالبيع أو بالتزويج بنكتة مبغوضيّة الملكيّة أو الزوجيّة إلا أنّ النهي التكليفي تعلّق بعنوان البيع أو التزويج ونحوهما فهذا لا يقتضي صحّة العقد، لا يقتضي صحّة المعاملة، فقد تكون مبغوضيّة الملكيّة أو الزوجيّة بدرجةٍ الشارع يُبطل ما يؤدي إليها.
القول الثاني: ما اختاره المحقق النائيني رحمه الله من أنّ النهي عن المسبب تكليفاً مقتضٍ للفساد.
وذكر في توضيح ذلك: أنّه يُعتبر في صحّة المعاملة سلطنة المكلّف على إيجاد المُسبب، فإذا نهى الشارع عن إيجاد المسبب فبذلك ارتفعت سلطنة المكلف عليه بعد نهي الشارع عنه، وعليه فيُفقد بعض شرائط صحّة المعاملة وهو سلطنة المكلّف على إيجاد المُسبب.
إن قلت: كيف يجتمع النهي التكليفيّ عن إيجاد المسبب مع بطلان العقد؟ بطلان العقد يعني عدم تمكن المكلف من إيجاد المسبب فكيف يجتمع ذلك مع تحريم إيجاد المسبب تحريماً تكليفيّاً؛ فإنّه يعتبر في التحريم كما يعتبر في الإيجاب كون متعلّقه مقدوراً للمكلف؟
يقول المحقق النائيني رحمه الله في الجواب: قلت: ما هو المحرّم تكليفاً إيجاد المسبب العقلائي وهذا يوجب ارتفاع السلطنة على إيجاد المسبب الشرعيّ.
[ردّ جواب المحقق النائيني رحمه الله]
وهذا الكلام من المحقق النائيني رحمه الله لم يُذكر له أيّ وجهٍ أو برهان:
أولاً: ظاهر النهي التكليفي عن البيع أو التزويج ليس هو النهي عن إيجاد الملكيّة أو الزوجيّة العقلائيّة؛ ألا ترى أنّه يحرم تكليفاً تزويج ذات البعل بالأجنبي مع أنّ المرأة التي تكون ذات بعل لو تزوجت برجلٍ آخر بطل زواجها حتى بنظر العقلاء، حرم عليها التزويج تكليفاً بفحوى ما دلّ على تحريم خطبة المرأة ذات البعل ولكن في نفس الوقت هي لا تقدر على إيجاد الزوجيّة العقلائية، النهي التكليفي عن البيع أو التزويج لا يقتضي إلا قدرة المكلّف على إيجاد عنوان البيع أو إيجاد عنوان التزويج وهو إنشاء عقد الزوجية لا أن يتعلّق النهي التكليفي بإيجاد الملكيّة أو الزوجيّة العقلائيّة.
وثانياً: نقول للمحقق النائيني رحمه الله: النهي عن إيجاد المسبب العقلائي كيف يمنع من صحّة المعاملةِ شرعاً؟ ما هو الدليل على ذلك؟ ما هو الدليل على أنّ النهي التكليفي عن إيجاد المسبب العقلائي ينتهي إلى بطلان العقد؟ ما هو دليلكم على ذلك؟
دعوى بلا دليل؛ أذكر لكم مثالاً ذكره نفس المحقق النائيني: لو تزوج شخصٌ بإمرأةٍ واُشترط عليه في نفس عقد الزواج أن لا يتزوج بامرأة أخرى، فيقول المحقق النائيني: هذا النهي التكليفي عن التزويج بامرأة أخرى يوجب بطلان الزواج بالمرأة الثانية.
فنقول: يا شيخنا تحريم التخلّف عن الشرط هل يقتضي عقلاً بطلان هذا العقد الذي وقع على خلاف الشرط أو يقتضي بطلانه عرفاً؟
أ) إذا تدّعون أنّه يقتضي بطلانه عقلاً: ما هو الوجه العقليّ في ذلك؟
ب) إذا تدّعون أنّه يوجب بطلانه عرفاً: فنحن لا نحسّ بارتكازنا العرفيّ أنّ النهي عن التخلّف عن الشرط يقتضي بطلان العقد الذي وقع على خلاف الشرط.
وحاصل الكلام: أنّ النهي التكليفي يقتضي انتفاء السلطنة التكليفيّة على الشيء، وانتفاء السلطنة التكليفيّة على الشيء لا ملازمة بينه وبين انتفاء السلطنة الوضعيّة عليه، فكيف وصلتم من انتفاء السلطنة التكليفيّة إلى انتفاء السلطنة الوضعيّة التي هي عبارة أخرى عن فساد العقد؟!
القول الثالث:
وعليه فنحن نصل إلى القول الثالث وهو أنّ النهي عن المسبب كالنهي عن السبب؛ لا يتقضي لا بطلان العقد ولا صحّته.
نعم، إذا كان الخطاب بلسان أنّ من أوجد الملكيّة أو الزوجيّة في فرض كذا فعليه لعنة الله فنقبل كلام صاحب الكفاية رحمه الله أمّا النهي عن المسبب الموجود في الروايات حيث تعلّق بعنوان البيع أو عنوان التزويج هذا لا يقتضي لا صحة العقد ولا بطلانه؛ فقد يكون العقد صحيحاً كما في النهي التكليفي عن بيع المصحف من الكافر أو بيع العبد المسلم من الكافر وقد يجتمع مع البطلان كما في النهي التكليفي عن التزويج حال الإحرام؛ فإنّه حرامٌ تكليفاًوباطلٌ وضعاً.
القسم الثالث
للنهي التكليفي
هو النهي التكليفي عن ترتيب الآثار
وله ثلاثة فروض:
الفرض الأول: أن يتعلّق النهي التكليفي بترتيب أثرٍ ملازمٍ لصحّة العقد، كجواز تصرّف البائع بالثمن، جواز تصرّق البائع بالثمن أثرٌ ملازمٌ للصحّة عرفاً بحيث لو حرم ترتيب ذلك الأثر كشف عن بطلان المعاملة.
الفرض الثاني: النهي التكليفي عن ترتيب جميع الآثار، وهذا لو كان نهياً تكليفياً عن ترتيب جميع الآثار الترخيصيّة والإلزاميّة فيوجب لغويّة الحكم بصحّة العقد، كيف يكون العقد صحيحاً مع تحريم ترتيب جميع الآثار إلى الأبد؟
الفرض الثالث: النهي عن ترتيب أثرٍ ليس ملازماً لصحّة العقد بحيث لا يلازم عرفاً النهي التكليفي عن ترتيب ذلك الأثر مع بطلان العقد، فقد يكون العقد صحيحاً لكن يحرم تكليفاً ترتيب أثرٍ ما عليه، فهنا لا يكشف تحريم ترتيب هذا الأثر المعيّن عن فساد المعاملة. نعم، بناءً على رأي الشيخ الأنصاري من أنّ أصالة عدم التخصيص تجري لإثبات التخصّص فيمكن أن يُطبّق ذلك المبنى على المقام.
توضيح ذلك:
الشيخ الأنصاري رحمه الله يقول إذا ورد في الخطاب “أكرم كلّ عالم” وعلمنا بعدم وجوب إكرام زيد ولكن لا ندري هل هو عالمٌ خُصّص من ذلك العموم أو جاهلٌ خارجٌ عن ذلك العموم تخصّصاً؟ فنجري أصالة عدم التخصيص في ذلك العام فنثبت بذلك أنّ زيد جاهلٌ لا يجب إكرامه لا أنّه عالمٌ خرج بالتخصيص عن عموم وجوب الإكرام.
فهنا في المقام أيضاً يقال:
ـ انتفاء هذا الأثر إذا كان لأجل فساد العقد: فيكون خروج هذا العقد عن عموم ترتب ذلك الأثر خروجاً تخصّصياً؛ لأنّه ليس هذا العقد صحيحاً حتى يترتب عليه هذا الأثر.
ـ وإذا كان العقد صحيحاً ولكن لم يترتب عليه هذا الأثر: فيكون خروج هذا العقد عن هذا الأثر خروجاً تخصيصيّاً فتجري أصالة عدم التخصيص فيثبت بذلك أنّ هذا العقد ليس صحيحاً، فيكون خروجه عن ترتيب هذا الأثر خروجاً تخصّصيّا.
فعلى كلام الشيخ الأنصاري رحمه الله تتعارض أصالة عدم التخصيص في عموم ترتيب الأثر على هذا البيع مع أصالة عدم التخصيص في نفوذ المعاملات كقوله تعالى ﴿أوفوا بالعقود﴾﴿أحل الله البيع﴾﴿تجارة عن تراض﴾ وبعد تعارضهما حيث إنّ عموم ﴿أوفوا بالعقود﴾ يثبت صحّة هذا البيع وأصالة عدم التخصيص في دليل ترتيب الأثر يُثبت كون هذا البيع باطلاً وأنّه خارجٌ عن دليل ترتيب الأثر تخصّصاً، وبعد معارضتهما إن لم نُقدّم العام الكتابي على الخبر الظنّي كما هو مبنانا في الأصول فنرجع إلى أصالة الفساد.
ولكن مبنى الشيخ الأنصاري ليس صحيحاً ولا نقبل جريان أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصّص.
[الاستدلال بروايتين لاقتضاء الفساد]
هذا تمام الكلام في اقتضاء النهي عن المعاملات للفساد ومشينا فيه على ضوء القاعدة، لكن هنا روايتان استدلّ بهما المحقق النائيني رحمه الله على اقتضاء النهي عن المعاملات للفساد:
الرواية الأولى: صحيحة زرارة رحمه الله
في صحيحة زرارة وقع الكلام عن حكم تزوّج العبد بغير إذن مولاه، زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: “سَأَلْتُهُ عَنْ مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَقَالَ علیه السلام: ذَاكَ إِلَى سَيِّدِهِ إِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَ إِنْ شَاءَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اَللَّهُ إِنَّ اَلْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ وَ إِبْرَاهِيمَ اَلنَّخَعِيَّ وَ أَصْحَابَهُمَا يَقُولُونَ إِنَّ أَصْلَ اَلنِّكَاحِ فَاسِدٌ وَ لاَ تَحِلُّ إِجَازَةُ اَلسَّيِّدِ لَهُ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام“ إِنَّهُ لَمْ يَعْصِ اَللَّهَ إِنَّمَا عَصَى سَيِّدَهُ فَإِذَا أَجَازَهُ فَهُوَ لَهُ جَائِزٌ “.
فيُقال بأنّ الإمام علیه السلام أبطل قول حكم بن عتيبة حيث قال :إن زواج العبد بدون إذن مولاه فاسدٌ لا يصلح أن يُصحح بإجازة المولى، أبطل الإمام هذا الرأي فقال: إنّ هذا العبد ليس عاصياً لله إنّما هو عاصٍ لسيده، فيقال بأنّ ظاهر هذه الرواية أنّه لو كان عاصياً لله كان عقده باطلاً لا يقبل التصحيح ولكن حيث إنّه ليس عاصياً لله وإنّما هو عاصٍ لسيده فعقده قابلٌ للتصحيح.
فاستُدلّ كما في كلام المحقق النائيني والسيد الخميني ‚ بهذه الرواية الصحيحة على أنّ النهي التكليفي عن المعاملات بعنوانها –بعنوان تلك المعاملة كالنهي عن البيع وقت الاعتكاف- يقتضي بطلانها، وهذا لا يختصّ بالنهي التكليفي عن المسبب، يشمل النهي التكليفي عن السبب كالبيع وقت الاعتكاف فإنّ البيع وقت الاعتكاف عصيانٌ لله تعالى وهذا يقتضي فساده.
تأمّلوا في هذا المطلب إلى الليلة القادمة إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين