بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 35 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي
الموضوع: النواهي (تنبيهات اجتماع الأمر والنهي) الدرس: الأصول (الدورة الرابعة)
التاريخ: السبت: 12/3/2022 (9/ شعبان/ 1443 ه)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في الأقوال حول حكم الخروج عن المكان المغصوب إذا دخل فيه بسوء اختياره:
[القول الثالث]
[واجبٌ بالفعل وحرامٌ بحرمةٍ سابقة قد سقطت لأجل الاضطرار]
وصلنا إلى القول الثالث، وهو قول صاحب الفصول رحمه الله حيث قال:
إنّ هذا الخروج واجبٌ بالفعل وحرامٌ بحرمةٍ سابقة قد سقطت لأجل الاضطرار، وقال رحمه الله: إنّ اختلاف زمان الوجوب والحرمة يكفي في ارتفاع التضادّ بينهما، فهذا الخروج قبل أن يدخل في هذا المكان كان محرّماً وبعد أن دخل فيه سقطت الحرمة وصار واجباً، فلا يتحدّ زمان الوجوب والحرمة ومن شرائط التضادّ وحدة الزمان.
أورد عليه صاحب الكفاية رحمه الله: بأنّ الخروج وإن سقطت حرمته بعد أن دخل في هذا المكان لكن هل خرج عن كونه مبغوضاً؟ إن خرج عن كونه مبغوضاً فهذا يعني البداء المستحيل في حقه تعالى، النهي السابق كشف عن كون هذا الفعل مبغوضاً، والمبغوض لا يتبدلّ إلى المحبوب إلا بالبداء المستحيل في حقه تعالى، فهذا الخروج لا يزال مبغوضاً وإن سقطت حرمته، فكيف يصير واجباً لأنّ الواجب هو المحبوب، هذا المبغوض لا يمكن أن يصير محبوباً بعنوانٍ واحد، والقائل بجواز اجتماع الأمر والنهي يرى جواز اجتماع الحبّ والبغض مع تعدد العنوان، وهنا أنتم تقولون بأنّ هذا العنوان –أي عنوان الخروج من المكان المغصوب- عنوانٌ واحد محبوبٌ ومبغوض، هذا مستحيل.
السيد الخوئي رحمه الله قبل هذا الإشكال وقال: تعدد زمان الأمر والنهي مع وحدة متعلّقهما لا يرفع استحالة اجتماع الأمر والنهي، فلا يمكن أن يأمر المولى يوم الأربعاء بصوم يوم الجمعة وفي يوم الجمعة ينهى عن هذا الصوم والمتعلّق هو صوم يوم الجمعة، يأمر به في يوم الأربعاء وينهى عنه في يوم الجمعة أو بالعكس ينهى عنه في يوم الأربعاء –يعني ينهى عن صوم يوم الجمعة وزمان النهي يوم الأربعاء- ويأمر بنفس هذا الصوم في يوم الجمعة في الزمان المتأخر –أي في يوم الجمعة- هذا مستحيل؛ لأنّ هذا الفعل إمّا مشتملٌ على المصلحة الملزمة فلا معنى للنهي عنه أو يشتمل على المفسدة الملزمة فلا معنى للأمر به.
ولكنّ الظاهر: عدم تماميّة هذا الإشكال على صاحب الفصول رحمه الله؛ فإنّ الداعي من النهي السابق عن الخروج هو الزجر عن الخروج بأن يجتنب المكلّف عن الدخول فلا يضطرّ إلى الخروج، فإذا دخل فهذا يعني أنّ النهي قد صار فاشلاً في زاجريته؛ لأنّ الغرض من ذاك النهي كان هو زاجرية المكلّف عن الخروج بأن لا يدخل في هذا المكان حتى يضطرّ إلى الخروج، فبعدما دخل فاضطرّ إلى تحمّل مفسدة الغصب سواء خرج أو بقي في ذلك المكان، زمان الخروج خمس دقائق فخلال خمس دقائق هو مضطرٌّ إلى الغصب سواءً خرج أو بقي في ذلك المكان، فهذه المفسدة ممّا اضطرّ إليها هذا المكلّف، فحينئذٍ الشارع يأمره باختيار الخروج دفعاً لمفسدةٍ أعظم وهي ارتكاب الغصب الزائد؛ فإنّه إذا بقي هناك سوف يرتكب غصباً أشدّ وأزيد، فأيّ منافاة بين ذلك النهي السابق وهذا الأمر الجديد اللاحق؟!
نظير: ما لو كان المكلّف متمكناً من إنقاذ الأجنبيّة بعد لبس الكفوف لكنه تساهل ولم يلبس الكفوف إلى أن ضاق وقت الإنقاذ، فلا مانع من أن يأمره المولى مقدمةً لإنقاذ الأجنبيّة بلمس جسدها بلا كفوفٍ؛ لأنّ هذا اللمس كان منهياً عنه بنهي سابق ولا يزال مبغوضاً ولكن الآن توجد مصلحةٌ أقوى وكان بإمكان المكلّف أن يحصّل ذلك الفعل المشتمل على المصلحة الأقوى وهو إنقاذ الأجنبية بلا أن يقتحم في المفسدة، بسوء اختياره صار مضطراً إلى تحمّل هذه المفسدة لأجل تحصيل تلك المصلحة الأقوى، أيّ إشكالٍ في ذلك؟
وإن شئت فيمكنك النقض على السيد الخوئي رحمه الله بما إذا باع المسلم عبده المسلم من كافرٍ، فإنّ الشارع يرى أنّ ملكية الكافر للعبد المسلم تشتمل على المفسدة، ولأجل ذلك يحرّم على هذا المالك للعبد المسلم أن يملّكه من الكافر ولكن بعد أن أنشأ هذا المالك ملكيّة الكافر لهذا العبد المسلم رأى الشارع مصلحةً أقوى في إمضاء هذه الملكيّة، وهكذا لو أنّ من وجب عليه الخمس وهب ماله من مؤمنٍ فقد ارتكب محرّماً لأنّه أتلف الخمس، ولكنّ الشارع يرى مصلحةً أقوى في إمضاء هذه الهبة، ولا يمكن لهذا المكلّف الذي وجب عليه الخمس أن يقول ما ذنبي؟ أنا إنّما أنشأت الهبة فإذا لم تكن هناك مصلحةٌ في ملكيّة هذا المؤمن من هذا المال المتعلَّق به الخمس فهذا بيدك، لا تمضيه، قل: باطل، قل هذه الهبة الباطلة، لماذا تقول: هذه الهبة صحيحة وتعاقبني لماذا وهبت؟ يقول الشارع: كانت توجد مفسدة في ملكيّة هذا المؤمن من المال المتعلّق للخمس ولكن بعد أن أنشأت الهبة حصلت مصلحةٌ أقوى في إمضاء الشارع لهذه الهبة.
وأذكر مثالاً عرفياً: أنت مشتري موز للأطفال فجاء ضيفٌ، وقلت لولدك لا تقول أمام الضيف: أبي أُحضر الموز؟ فهذا الولد كأنّك لم تنصحه بشيء، عندما جاء ذاك الضيف أول ما جلس قال الولد: أبي أُحضر الموز؟ ماذا يقول الأب له؟ في نفسه يقول: طاح حظّك لكن يقول: نعم أحضِر الموز، هذا الضيف محترم، فهو يحضر الموز وعندما يخرج ذاك الضيف ماذا تفعل بذاك الولد؟ فكانت توجد مفسدة في أن يقدّم الموز للضيف، لكن بعدما قال الولد “أُحضر الموز؟” صار مصلحةً أقوى في أن تأمره بالإتيان به، وكان بإمكان الولد أن لا يحقق موضوع تلك المصلحة الأقوى بأن يسكت، فهل هناك إشكالٌ في النهي السابق بالإتيان بالموز قبل أن يقول “أبي أُحضر الموز؟” والأمر اللاحق بالإتيان بالموز بعد أن قال هذا الكلام.
فحاصل الكلام: أنّ كلام صاحب الفصول تامٌّ جدّاً لولا أنّنا لا نرى وجوب المقدمة شرعاً، كما أننا لا نرى لغوية بقاء الحرمة عن هذا الغصب المنطبق على الخروج ولو بنكتةٍ الزاجريّة السابقة لا الزاجريّة الفعليّة عن الخروج بعد أن دخل في المكان المغصوب.
القول الرابع
[حرامٌ بحرمةٍ سابقة وليس بواجبٍ لا سابقاً ولا لاحقاً]
ما اختاره صاحب الكفاية والسيد الخوئي ‚ من أنّ هذا الخروج حرامٌ بحرمةٍ سابقة وليس بواجبٍ لا سابقاً ولا لاحقاً، فالآن هذا الخروج ليس محكوماً بحكمٍ شرعيٍّ أبداً لكنّه لازمٌ عقلاً لتوقف التخلّص من الغصب الزائد عليه وحرامٌ شرعاً بحرمةٍ سابقة.
ونكتة حرمة هذا الخروج بحرمةٍ سابقة: أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن كان ينافيه خطاباً. صار امتناع بالاختيار، يعني امتنع في حقك الاجتناب عن الخروج وهذا حصل بسوء اختيارك، الامتناع بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطاباً، يعني يسقط النهي عن الخروج في حقك ولكن لا ينافيه عقاباً، تعاقب عليه.
المحقق النائيني قدس سره قال: يا صاحب الكفاية هذه القاعدة المحترمة “الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار” تطبقها على المقام؟ ما علاقتها بالمقام؟
نقول للمحقق النائيني رحمه الله: فهذه القاعدة موردها أين؟ يقول: مورد هذه القاعدة الامتناع التكويني عن الإتيان بالواجبات، ويذكر لذلك مثالين، يقول:
أ.بعدما استطعت للحجّ وجب عليك تسجيل اسمك في حملةٍ كي تذهب إلى الحج فتأخرت ولم تسجّل اسمك في الحملة إلى أن عجزت عن الذهاب إلى الحج، فامتنع عليك الحج بعد أن وجب عليك، الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، تُعاقب على ترك الحج.
ب.المثال الثاني: من أوقع نفسه من شاهق، فامتنع عليه حفظ نفسه المحترمة بسوء اختياره والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن كان ينافيه خطاباً.
أمّا المقام: أولّاً الاجتناب عن الخروج ليس ممتنعاً تكويناً، يمكنك أن تجتنب عن الخروج بأن تبقى في هذا المكان، لا يمتنع عليك أن تجتنب عن الخروج، ولأجل ذلك ألزمك العقل بأن تخرج، العقل يلزمك أن تخرج وهذا يعني أنّ الخروج بيدك إن شئت خرجت وإن شئت لم تخرج، فلم يمتنع لا الخروج ولا ترك الخروج في حقك، بينما أنّ القاعدة كانت تختصّ بالامتناع التكويني.
ومن جهةٍ أخرى: مورد القاعدة الواجبات التي يعجز المكلّف عن الإتيان بها إذا لم يحصّل مقدمتها بينما أنّه في المقام الخروج حرام.
ثم قال: كيف يكون الدخول مقدمةً للتمكن من الخروج وفي نفس الوقت يكون مسقطاً لحرمة الخروج؟ الدخول أوجب تمكنّ المكلّف من الخروج، لو ما دخل في هذا المكان لما قدر أن يخرج، فكيف يكون موجباً لسقوط حرمته بنكتة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟!
نقول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا يخلو عن غرابةٍ؛ أنا أذكر لكم مثالاً: شخصٌ خرج إلى خارج البلد ولم يأخذ معه طعاماً حلالاً فاضطرّ إلى أكل الميتة وهو يعلم بأنّه لو لم يأخذ معه طعاماً حلالاً سوف يضطرّ إلى أكل ذبائح الكفار، يضطرّ إلى أكل الميتة، حينما اضطرّ إلى أكل الميتة فصار تزاحماً بين حرمة أكل الميتة وبين حرمة قتل النفس، لو لم يأكل الميتة صار سبباً لقتل نفسه، لو أراد أن لا يقتل نفسه فلا بدّ أن يأكل الميتة، فلأجل كون قتل النفس أشدّ مفسدةً يصير مضطرّاً تشريعيّاً إلى أكل الميتة، ليس مضطرّاً تكويناً يمكنه أن لا يأكل الميتة فيموت، لكنّه مضطرٌّ تشريعي لتزاحمه مع تكليفٍ أهمّ، فصار الاجتناب عن أكل الميتة ممتنعاً عليه تشريعاً والامتناع التشريعي عن الاجتناب عن أكل الميتة كان بسوء اختياره، فلماذا لا ينطبق عليه قاعدة “أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً”؟
وهكذا في مثال تأخير المنقذ للأجنبية عن لُبس الكفوف، بعدما تأخر ولم يلبس الكفوف يضطرّ تشريعاً إلى لمس جسد الأجنبية وإلّا يقول: لا، أبداً لا أضع يدي على جسد هذه المرأة المتسلّخة لا يمكن، فلا ينقذها حتى تموت، وهذا غير جائز، فهو مضطرٌّ تشريعاً إلى لمس بدن هذه الأجنبيّة بلا كفوف. امتنع عليه الاجتناب عن لمس جسد الأجنبية امتناعاً تشريعيا وكان بسوء اختياره، لماذا لا تنطبق عليه قاعدة “أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار”؟
فإذاً هذا القول الرابع وهو قول صاحب الكفاية والسيد الخوئي ‚ تامٌّ عدا أنّنا نقول: حيث إنّ الدال على حرمة هذا الخروج خطابٌ مطلق أو على قول السيد الخميني قدس سره خطابٌ قانونيّ فلا مانع من شمول خطاب الحرمةِ لهذا الخروج بالفعل، الغصب محرّمٌ وهذا مصداقٌ للغصب المحرّم وإن كان بداعي الزاجريّة السابقة، أي بداعي أن لا يدخل في هذا المكان كي ينجبر إلى أن يخرج منه، لكنّه الآن أيضاً مشمول لخطاب تحريم الغصب.
[القول الخامس]
[ليس بواجب بل هو حرام بحرمةٍ فعليّة لكن لا بداعي زاجريّةٍ فعليّة]
وبهذا وصلنا إلى القول الخامس وهو قول المحقق العراقي والسيد الخميني وصاحب الأضواء والآراء رحمهم الله من أنّ هذا الخروج ليس بواجب لعدم وجوب المقدمة شرعاً بل هو حرام بحرمةٍ فعليّة لكن لا بداعي زاجريّةٍ فعليّة، ليس الداعي من هذه الحرمة الزجرُ عن الخروج بعد الدخول، لا الغرض منها كان الزجر من هذا الخروج بأن لا يدخل في هذا المكان كي ينجبر إلى أن يخرج منه.
هذا حكم الخروج من المكان المغصوب الذي دخل فيه بسوء اختياره، ويقع الكلام في حكم الصلاة حال الخروج غداً إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.