بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 3 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: النواهي (الجهة الثانيّة: هل خطاب النهي ظاهرٌ في الحرمة؟) الدرس: الأصول (الدورة الرابعة)
التاريخ: الثلاثاء: 28/12/2021 (23/جمادي الأول/ 1443)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
[ثمرة البحث]
كان الكلام في بحث النواهي، فقلنا أنّ كلمة النهي وكذا صيغة النهي إنشاء الزجر عن الفعل. وهذا البحث يؤثّر في مسألةٍ فقهيّة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنّه إذا رأى المكلف شخصاً يريد أن يرتكب المنكر فيجب أن ينهاه عنه، ولا يصدق النهي على مجرّد الاستدعاء كأن يستدعي منه: أرجوك إذا تترك هذا العمل أنسب إليك، لا هذا العمل لا يفيد، لا بدّ من أن يُنشىء الزجر ويزجره عن الفعل، يقول له “لا تفعل”.
نعم، لو علم بتأثير أقل من ذلك وأنّ ذلك الذي يريد ارتكاب المنكر سينزجر عن المنكر ولو استدعيت منه أن لا يرتكب المنكر فلحصول الغرض يحصل الامتثال، ولكن إذا كنت تشك هل يؤثر الاستدعاء في ردعه عن المنكر؟ فهنا يجب أن تنهاه وتزجره عن المنكر ولا يكفي أقلّ من ذلك، هذا هو الكلام في الجهة الأولى من الجهات المبحوثة في النواهي.
أمّا الكلام في الجهة الثانية، وهي: أنّ خطاب النهي هل هو ظاهرٌ في الحرمة أم لا؟
فهنا عدّة أقوال:
1.القول الأول: ما اختاره صاحب الكفاية، من أنّ كلمة النهي وصيغة النهي قد وضعتا للدلالة على الحرمة، واستعمالهما في الكراهة أو في الجامع بين الحرمة والكراهة يكون استعمالاً مجازياً.
ولكن هذا خلاف الوجدان؛ فإنّنا لا نرى أيّ تجوّز في استعمال كلمة النهي وصيغة النهي في المكروهات.
2.القول الثاني: ما اختاره جماعةٌ وهو الصحيح، من أنّ كلمة النهي وصيغة النهي لم توضعا لخصوص الحرمة بل وضعتا لمطلق الزجر عن الفعل، ولكن مقدّمات الحكمة تقتضي أن يكون الزجر فيهما زجراً تحريمياً.
3.القول الثالث: ما اختاره بعض الأعلام، من عدم ظهور كلمة النهي أو صيغة النهي في الحرمة، ولكن إذا وُجّه خطاب النهي من المولى إلى عبده كان حجّة عقلائيّة عليه، بحيث لو ارتكبه من دون أن يصل إليه ترخيص من المولى احتجّ عليه العقلاء ويرونه مستحقاً للعقاب، وهذا ما اختاره السيّد الخميني + في أبحاثه.
ولكن الانصاف: أنّ الحجيّة العقلائيّة ليست تعبديّة في المقام بل تنشأ من الكشف النوعي الاطلاقي لخطاب النهي في الحرمة وإلّا فلو كان خطاب النهي متصلاً بما يدلّ بالقرينية على الترخيص، أو كانت النسخ مختلفة ففي نسخة اقترن خطاب النهي بالترخيص بالارتكاب، فهل يحتجّ العقلاء على العبد بذلك؟
الظاهر أنّ العقلاء لا يحتّجون بمثله على العبد. فهذا يكشف عن كون منشأ الحجيّة العقلائيّة الظهور النوعي، الكشف النوعي لخطاب النهي في الحرمة.
ولعلّ منشأ هذا الظهور الإطلاقي أنّ مفاد كلمة النهي وصيغة النهي لُبّاً –لا استعمالاً- هو إبراز إرادة المولى لترك العبد الفعل، فالعقلاء يقيسون إرادة المولى التشريعيّة بالتكوينيّة، فإذا قال شخصٌ أريد أن أقوم الآن، أو قال أريد أن لا أقوم الآن، فلو رأوا أنّ هذا المتكلّم خالف ما أبرزه يتعجّبون منه، ويرونه من تخلّف المراد ويفهمون أنّه حصل له رأي جديد وتبدّل رأيه، فالعقلاء يقولون الإرادة التشريعيّة نظير التكوينيّة فلو قال المولى لعبده أريد أن تقوم أو أريد أن لا تقوم، فيرون العبد في عالم الكليف لا ينفك عمله ولا يتخلف عمله عن إرادة المولى.
4.القول الرابع: قول المحقق النائيني والسيد الخوئي ‚، من أنّ الحرمة حكم العقل، إذا وُجّه خطاب النهي إلى العبد ولم يرد من المولى ترخيص في الارتكاب فالعقل يحرّم ويحكم بحرمة هذا الفعل على العبد.
وقد ذكر السيّد الخوئي أنّ مفاد كلمة النهي هو اعتبار محروميّة المكلّف من الفعل وما لم يرد ترخيص من المولى في ارتكاب الفعل فالعقل يحكم بحرمة هذا الفعل، كما أنّه في الأمر مفاد خطاب الأمر اعتبار الفعل على ذمّة المكلّف وما لم يرد ترخيص من المولى في ترك الفعل فالعقل يحكم بالوجوب.
وأشكلنا عليه: أنّ العقل الفطري لا يحكم لا بالوجوب ولا بالحرمة، وإن كان هناك شيء فهو حكم العقلاء الذي قلنا أنّه ينشأ من الكشف النوعي لخطاب النهي، وإلّا فيلزم أن يقول السيّد الخوئي بأنّه لو ورد ترخيص عام وورد خطاب خاص ينهى عن فعلٍ، فذلك الترخيص العام يكون وارداً على حكم العقل، العقل بعدما ورد ترخيص ولو بلسان عام فلا يحكم بلزوم الاجتناب.
ولكن: ليس من المعهود بأنّ هذا الخطاب الخاص للنهي لا يكون مقتضياً للتحريم عقلاً لأجل ورود خطاب ترخيصي عام، بل يرون هذا الخطاب الخاص أنّه مخصص لذاك الخطاب الترخيصي العام.
نعم، رأينا من السيّد الخوئي في موردٍ أنّه التزم بهذا النقض؛ في بحث النكاح حينما وصل إلى قوله تعالى ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّات﴾؛ قال: هذا ظاهر في الوجوي، يعني هذا مقتضٍ للوجوب بتعبير أصح، هذا الخطاب الذي يأمر الصبي بالاستئذان يقتضي الوجوب عليه ولكن عموم “رفع القلم عن الصبي” يكون دالاً على الترخيص. ولم أرَ أنّ السيد الخوئي في غير هذا المجال التزم بأنّ الخطاب العام الترخيصيّ يقدّم على الخطاب الخاص المشتمل على الأمر أو النهي، بل يرى أنّ الخطاب الخاص هو الذي يقدّم على الخطاب العام، وهذا هو الصحيح بالنظر العقلائي.
5.القول الخامس: ما مال إليه المجلسيّ الأول & في بعض كتبه وسبقه في ذلك صاحب المعالم &، فقالا بأنّه الآن بعدما ورد خطاب النهي في مكروهات كثيرة في الشريعة فلم يبقَ ظهور لخطاب النهيّ في الحرمة. ويصرّح صاحب المعالم & بأنّه صار مجازاً مشهوراً، يعني لا يمكن حمل خطاب النهي على الحرمة بعدما صار استعمال في معنى الكراهة مجازاً مشهورا، وهكذا يقول المجلسي الأول & أنّ مقتضى الاحتياط أنّ لا نفتي بالحرمة بمجرد رؤيّة خطاب النهي ما لم يقترن بقرائن دالّة على التحريم، وإن كان مقتضى الاحتياط العملي الاجتناب.
وهذا خلاف ما نراه في مرتكز المتشرّعة أنّهم إذا وصل خطاب النهي من الشارع يحتّجون بهذا الخطاب على العبد إذا خالفه ويرونه مستحقاً للعقاب. فمجرّد ورود خطابات كثيرة استعمل النهيّ فيها في مورد الكراهة فهذا لا يمنع من الاحتجاج العقلائي، حيث لا يمنع من الظهور العرفيّ العام لخطاب النهي في الحرمة.
السيّد السيستاني = اختار القول الثاني، وهو كون مقتضى اطلاق دليل النهي لكن بتقريب حديث، فقال:
يوجد ظهور اندماجي واستبطاني لخطاب النهي في اقترانه بالوعيد بالعقاب، فحينما يقول المولى لعبده لا تكذب فهذا يسبتطن الوعيد بالعقاب “لا تكذب وإلّا عاقبتك”، يتضمّن الوعيد بالجزاء. ما هو منشأ هذا الظهور الاستبطاني؟
أ.هو العقاب من الموالي والآباء في التاريخ، كانوا ينهون عبيدهم وأبناءهم عن فعلٍ وإذا خالفوه يعاقبونهم، فلما تكرّر ذلك حينما يسمع العبد من مولاه أنّه يقول له “لا تكذب” يكون منبّها شرطياً على ذلك القرين “لا تكذب وإلا عاقبتك”.
ب. ويمكن أن يكون منشأ هذا الظهور الاستبطاني تكرّر الوعيد بالعقاب، كانوا سابقاً يقولون: “لا تفعل وإلّا عاقبتك” ثمّ بعد ذلك كانوا أحياناً يقولون “لا تفعل وإلّا“، إلى أن حذف ذلك القرين ولكن بقي الظهور الاندماجي والاستبطاني في خطاب النهي.
ج. يقول السيد السيستاني ‘ يوجد منشأ آخر للحرمة، وهو أن يربط المولى امتثال الخطاب بشخصيّته؛ كأنّه يقول: “لا تكذب وإلّا فلو كذبت كان هتكاً لحرمتي“، وهتك حرمة المولى يوجب العقاب.
السيّد السيستاني يقول: في المجتمع الطبقي الذي كان يشتمل على الموالي والعبيد كان هذا هو الدارج “ربط الشخصيّة”، ولكن في المجتمع القانوني كالمجتمع الديني، الظاهر هو الوعيد بالجزاء لا ربط الشخصيّة؛ فإنّ القانون هو الذي يحكم على المجتمع، ومن خالف القانون لا يراه العرف أنّه هتك المولى. والشاهد على ذلك:
1. قوله تعالى ﴿وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾؛ فلو كان العصيان هتكاً لشخصيّة الله سبحانه وتعالى كان ظلماً في حقه، يقول ﴿وَما ظَلَمُونا﴾ فليس هناك ربط للشخصية، ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾ لأنّنا قلنا لهم لا تكذبوا وإلّا عاقبناكم.
2.والشاهد الثاني: اختلاف العقاب باختلاف المحرّمات؛ فلو كان منشأ العقاب هتك حرمة المولى لتساوى العقاب في جميع الموارد، ولكن عقاب الكذب أقلّ من عقاب الغيبة، وعقاب الغيبة أقلّ من عقاب التهمة.
فهذا يكشف أنّ منشأ العقاب ليس هو ربط الشخصيّة بحيث يكون العصيان هتك لحرمة المولى وهتك حرمة المولى يوجب العقاب.
بل منشأ العقاب هو الوعيد بالعقاب في النواهي يختلف العقاب في درجته باختلاف النواهي، هذا هو الصحيح ولأجل ذلك لا يمكن للسيد السيستاني العقاب على التجرّي؛ لأنّه في التجرّي لا يوجد نهي حتى يشتمل على وعيد بالعقاب ويكون مصحّحاً للعقاب، بخلاف موارد النهي فإنّه يوجد وعيد بالعقاب وهذا الوعيد بالعقاب الذي استظهرنا –أي استظهر السيد السيستاني- أنّه لأجل الوعيد بالجزاء وليس منشؤه ربط الشخصيّة، هذا هو الموجب لظهور خطاب النهي في الحرمة.
تأملّوا في ذلك إلى الدرس القادم.
والحمد لله رب العالمين