بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 10 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: النواهي (في اجتماع الأمر والنهي)
التاريخ: السبت: 15/1/2022 (12/جمادي الثانية/ 1443)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في اجتماع الأمر والنهي، حيث وقع البحث في أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في موردٍ واحد مع تعدد العنوان أم لا يجوز؟
[تحرير محل النزاع]
ولا يخفى أنّ مورد النزاع حسبما هو الظاهر ما إذا كان الأمرُ متعلّقاً بصِرف الوجود؛ كما أكدّ عليه السيّد الخوئي رحمه الله في بعض كلماته، وأمّا إذا كان الأمرُ متعلّقاً بالطبيعة على نحو مطلق الوجود أي كان الأمر انحلاليّاً فلا مجال هنا لتوهم اجتماع الأمر والنهي.
مثل ما لو أمر المولى بالوضوء من كلّ ماءٍ موجودٍ في الدار وكان في الدار 10 مياه 5 منها مغصوبة، فإنّ الأمر الانحلالي بالوضوء من كلّ واحدٍ من هذه المياه لا يجتمع مع النهي عن الغصب، وهكذا في المستحبات الانحلاليّة، كاستحباب ذكر الله تعالى والنبي (ص) والأئمة (ع) فإنه استحباب انحلاليٌّ، فلو كان ذكر الله تعالى أو ذكر النبي أو ذكر الإمام مصداقاً لمخالفة التقيّة الواجبة فهنا لا مجال لتوهّم اجتماع الأمر والنهي.
فما قد يظهر من صاحب الكفاية قدس سره أنّه يجري النزاع في مثل ما لو ورد من المولى “أكرم العلماء“ وورد عنهم “لا تكرم الفسّاق”. وما هو المشهور من وقوع التعارض بينهما في مورد العالم الفاسق فلعلّه ينشأ من إحرازهم عدم الملاكين في مورد الاجتماع، حيث يعتبر صاحب الكفاية اجتماع الأمر والنهي احراز الملاك لكلا الحكمين. وهذا غريب، من الذي يُحرز عدم اجتماع الملاكين؟ فلعلّه يوجد ملاكٌ لوجوب إكرام العالم الفاسق وملاك لحرمة إكرامه، وإن كان الحكم الفعلي يتبع أغلبهمما. إلّا أنّ المهم أنّ العرف لا يقبل اجتماع الأمر بإكرام شخصٍ لأجل كونه عالماً والنهي عن إكرامه لأجل كونه فاسقاً، كيف يأمرُ المولى بإكرامه وداعيه هو حثّ المكلّف نحو إكرامه، وينهى عن إكرامه وداعيه زجر المكلّف عن إكرامه، فهل يجتمع داعي البعث والزجر في نفس المولى في آن واحد بالنسبة إلى فعلٍ واحد؟ قطعاً لا يمكن ذلك.
فإذاً محلّ النزاع فيما لو كان الأمر متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة كالأمر بالوضوء بالماء، فيقال إذا انطبق على وضوء بماء عنوان محرّم كعنوان الغصب، فهل يمكن اجتماع الأمر والنهي بالنسبة إليه؟ أو أمر المولى بدفن الميّت في مكانٍ وانطبق عنوانٌ محرّم على دفن الميّت في مكان خاص، كما لو كان المكان مغصوباً أو كان دفنه في هذا المكان مصداقاً لإيذاء المؤمنين، أو إيذاء من لا يجوز إيذاءه كإيذاء الوالدين أو لا يمكن اجتماعهما؟
جمعٌ من الأعلام التزموا بامتناع اجتماع الأمر والنهي ولو مع تعدد العنوان، وممّن ذهب إلى ذلك صاحب الكفاية ومن المعاصرين السيّد الخوئي. وثمرة هذا القول أنّه لو جاء شخصٌ ودفن أبيه في مكانٍ مغصوب، دفنه في مكانٍ لا يجوز له أن يدفنه فيه، إمّا لكونه مغصوباً من الناس أو مأخوذاً من غير المتولّي الشرعي أو متعلّقاً للخمس ولم يخمّسه، فدفن أباه بذلك المكان.
فعلي رأي السيّد الخوئي يجب على سائر المكلّفين مع الإمكان نبش قبره، لماذا؟ لأنّ إطلاق الأمر بدفن الميت لا يمكن اجتماعه مع تحريم دفنه في هذا المكان لعنوان الغصب وماشابهه، فينكشف من خلال ذلك تقيّد متعلّق الأمر بدفن الميت بدفنه في مكانٍ مباح، فهذا هو الواجب الكفائي والمفروض أنّه لم يُمتثل بعدُ، فيجب على سائر المكلّفين امتثال هذا الواجب الكفائي بأن يخرجوه من القبر ويدفنوه في مكانٍ مباح. بينما أنّه على رأي من يرى جواز اجتماع الأمر والنهي، الذي دفن هذا الميت في هذا المكان المغصوب ارتكب حراماً ولكنه في نفس الوقت امتثل الواجب فلا وجه لتقييد الواجب بدفن الميّت في مكانٍ مباح، فالواجب الكفائي قد اُمتثل وسقط التكليف في حق الآخرين.
المحقق النائيني والسيّد الخوئي قدس سرهما ذكرا في المقام أنّ النزاع في المقام صغرويّ وليس كبروياً، يعني ماذا؟
يعني: أنّه لا إشكال عند أيّ أحد في امتناع اجتماع الأمر والنهي في معنونٍ واحد ولو مع تعدد العنوان، إنّما النزاع في أنّه هل يكشف تعدد العنوان عن تعدد المعنون بأن يكون الخارج مشتملاً على موجودين متلاصقين، أحدهما مصداقٌ للواجب والآخر مصداقٌ للحرام، أمّ أنّ تعدد العنوان لا يكشف عن تعدد المعنون، فهناك موجود واحدٌ يكون معنونا بعنوانين، فحينئذ يمتنع اجتماع الأمر والنهي فيه عند الكل. ولأجل ذلك في مثال الوضوء بالماء المغصوب لا ينبغي الإشكال أو لا يأتي الإشكال في امتناع اجتماع الأمر والنهي؛ لأنّه لا يُتوهم أن يكون في الخارج التركيب بين الغصب وبين غسل الوجه في الوضوء تركيباً انضمامياً، يعني يكونان موجودان متلاصقان. فليس هناك إلا موجود واحد وهو غسل الوجه بالماء، وحيث إنّه غسل للوجه بالماء المملوك للغير فينتزع عنه عنوان الغصب.
وإنّما وقع النزاع في جواز الصلاة في المكان المغصوب وضعاً أي جواز اجماع الأمر والنهي في المكان المغصوب لأجل أنّه من يجوز ذلك يرى أنّ التركيب بين الصلاة والغصب تركيب انضمامي، يعني المصداق الحقيقي للصلاة غير المصداق الحقيقي للغصب.
هذا الكلام ليس صحيحاً؛ فإنّنا نرى في مسألة الوضوء بالماء المغصوب فتوى الفقهاء، فتوى جمعٍ كثيرٍ من الفقهاء بصحة الوضوء بالماء المغصوب. بل هذا مقتضى الاستدلال في جواز الاجتماع بأنّ الأمر والنهي لا يسريان من العنوان إلى المعنون الخارجي. فهذا العنوان المتعلّق للأمر يبقى الأمر متعلّقاً به ولا يسري إلى الخارج، وذلك العنوان المتعلّق للنهي يبقى النهي متعلّقاً به ولا يسري للخارج، فوحدة الخارج لا تضرُّ بتعدّد متعلّق الأمر والنهي بعد كون متعلّق الأمر عنواناً متغايراً مع عنوان متعلّق الأمر.
فإذاً النزاع في المقام كبرويٌّ، وقد يكون النزاع صغروياً في مثال الصلاة في المكان المغصوب وسيأتي ذلك إن شاء الله.
الكلام في اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين:
المقام الأول: ما إذا كانت النسبة بين العنوان المتعلّق للأمر والعنوان المتعلّق للنهي عموم وخصوص مطلق.
والمقام الثاني: فيما لو كانت النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.
المقام الأول: لو كان الأمر متعلقاً بصرف وجود عنوانٍ مطلق كشرب الماء، والنهي متعلّقاً بحصّةٍ منه وهو شرب الماء البارد، فهل يجوز اجتماع الأمر والنهي؟
كثيرٌ من القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدّد العنوان إذا كانت النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ذهبوا إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي إذا كانت النسبة بين متعلّق الأمر والنهي عموم وخصوص مطلق، ومنهم صاحب البحوث قدس سره.
ولكن السيّد السيستاني ذهب إلى جواز اجتماع الأمر والنهي حتى في العام والخاص المطلق، وأمّا ما ذكره فهو الصحيح. ليس الكلام في الاستظهار العرفي من “لا تشرب الماء البارد” أنّه إرشاد إلى مانعية شرب الماء البارد، فإنّ ظهور هذا الخطاب في الإرشاد إلى المانعيّة من الطبيعي أن يوجب تقيّد الأمر بشرب ماءٍ. وإنّما الكلام فيما لو عُلم من هذا الخطاب التحريم التكليفي، فيقول المولى لعبد “لا تشرب الماء البارد حتى لا تلتهب رئتك” وهو قد قال لعبد “كل يوم اشرب الماء حتى لا يوجب العطش الأمراض في حقك”، لو أنّ هذا العبد شرب الماء البارد، لماذا لا نقول بأنّه امتثل الأمر بشربٍ ماءٍ وعصى النهيّ عن شرب الماء البارد؟
وهكذا السيّد السيستاني يقول: النهي عن التصرّف في مال الغير من غير إذنه من هذا القبيل؛ لأنّ الوارد في الخطابات النهي عن الغصب، والغصب هو الاستيلاء على مال الغير وأمّا السجود في أمر الغير والوضوء بماء الغير فهذا ليس غصباً، هذا تصرّفٌ في مال الغير بغير إذنه.
ولم يرد دليلٌ تامُّ الدلالة على أنّ عنوان التصرّف بمال الغير حرام برأسه. نعم، ورد في رواية الأسديّ: “لا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بدون إذنه” ولكن بعضهم أشكل عليها بضعف السند ولقد يُستشكل عليها بضعف الدلالة؛ لأنّ العرف يرى أنّ التصرّف عنوان مُشير إلى العناوين التفصيليّة كأكل طعام الغير وشرب ماء الغير والدخول في ملك الغير. وهذا هو الذي اختاره في البحوث، فقال: يستفاد من قوله تعالى ﴿لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم﴾ أنّ النهي متوجّه إلى العناوين التفصيليّة لمصاديق الغصب.
وعليه فيكون النهي متعلّقاً بهذا العنوان المقيّد، الغسل بماء الغير، والواجب ماذا؟ طبيعي غسل الوجه في الوضوء. فيكون من قبيل الأمر المطلق والنهي عن المقيّد، ولا إشكال في أنّ هذا النهي نهي تحريمي لا إرشادي إلى المانعيّة.
يُذكر عدّة وجوه لإثبات امتناع اجتماع الأمر بصرف وجود المطلق والنهي التحريمي عن حصّة منه:
الوجه الأول: ما ذكره السيّد الخوئي: ولعلّه تبع في ذلك أستاذه المحقق النائيني، فقال: يتقوم الإطلاق بالترخيص في التطبيق. فلا يُتعقّل إطلاق للأمر من دون أن يُرّخصّ الشارع المكلّف في تطبيق امتثال هذا الأمر على موردٍ خاص. فإذا قال المولى أكرم عالماً، وقال له: لا أرخّصك في أن تطبق هذا الواجب على إكرام العالم الفاسق، فهذا يعني أنّه لا يوجد إطلاق لخطاب أكرم عالماً بالنسبة إلى العالم الفاسق. فيتقوّم إطلاق الأمر في الترخيص بالتطبيق، فإذا قال المولى إشرب ماءً، يكون إطلاقه متوقفاً على ترخيص المولى في تطبيق امتثال الأمر بشرب الماء على شرب الماء البارد، وهذا لا يجتمع مع النهي عن شرب الماء البارد.
والجواب عنه كما ذكره السيّد السيستاني : الإطلاق لا يتقوّم إلّا بالترخيص الوضعيّ في التطبيق، ويراد من الترخيص الوضعيّ كون إتيان هذا الفرد مجزئاً عن ذلك الواجب.
نحن نعبّر عنه بالترخيص الحيثيي، يعني من حيث امتثال ذلك الواجب من تطبيق الواجب على هذا الفرد وإن كان قد يوجد موانع أخرى في ارتكاب ذلك الفرد، ذلك الفرد منهيّ عنه بعنوان الغصب، ولكن من حيث عنوان ذلك الواجب كعنوان دفن الميّت في مثال دفن الميّت لا مانع من امتثال الأمر في دفن الميّت بأن يُدفن في هذا المكان المغصوب، وهذا يجتمع مع تحريم الغصب على هذا المكلّف ولو في عنوان الدفن في المكان المغصوب.
وهكذا في إطلاق إشرب ماءً؛ يتقوم في أن يكون لا بشرط في شرب الماء البارد، فيكون الترخيص في التطبيق وضعيا كما ذكره السيد السيستاني أو حيثيّاً كما نحن نعبّر بذلك، وهذا يجتمع مع المنع الفعليّ عن التطبيق بعنوانٍ مقيّد أو عنوانٍ آخر.
فهذا الوجه لامتناع اجتماع الأمر والنهي في الأمر بالمطلق والنهي عن المقيّد غير متجّه، وبقية الوجوه تأتي في الليالي القادمة إن شاء الله .
والحمد لله ربّ العالمين